إحراق كابلات النحاس آخر الفنون الإجرامية في بيئة الجنوب

لم يعد حرج علي الطاهر في النبطية الفوقا مقصدا للتنزه فقط: غيمة سوداء تتصاعد منه بوتيرة زمنية عشوائية، مرتين كل شهر، أو كل أسبوع. مشاكل البيئة في الجنوب أصبحت لا تعد ولا تحصى، من المكبات العشوائية، إلى إحراق النفايات العشوائي، وصولا إلى الأزمة الكبيرة: إحراق كابلات الكهرباء لإستخراج النحاس وبيعه، وهي آخر ما توصل إليه فنانو الإجرام البيئي.

قد يكون الحكم المسبق بـ"الاجرام البيئي" في ضيعاتنا الجنوبية ظلم لكثيرين لكن، وبالتوصيف الفعلي لما يحدث، لا يمكن أن يطلق عليه إلا تسمية "جرائم بيئية"، وصلت إلى حدّ مأساوي. من هنا تختلف التهم الموجهة إلى بلديات باعت أهدافها التنموية النبيلة مقابل مبالغ سنوية، تتقاضاها لتحوّل أراضيها إلى مكبات عشوائية، تحترق بفعل فاعل أو بعوامل طبيعية. وتتوجه التهم أيضا إلى المواطن الجنوبي الذي غابت عنه الثقافة البيئية والذي اتخذ الإحراق العشوائي وغير المكتمل حلا للتخلص من كميات النفايات المتراكمة بفعل الإهمال الرسمي الكبير من قبل الوزارة المختصة ومن قبل البلديات.

وفيما توجهت التهم في الفترة الأخيرة إلى مجموعات من الأسر تعتمد في دخلها على بيع النحاس الناتج عن إحراق كابلات الكهرباء، هذه العملية تطورت بشكل ملحوظ لتصبح مهنة من لا مهنة له.

إذ أنّه في الجنوب تعتمد أكثر من أربعمئة عائلة على بيع النحاس بعد إحراق الكابلات لتأمين قوتها اليومي، فيما يتراوح هذا العدد في محافظة النبطية حول مئتي أسرة، بحسب دراسة أعدتها جمعية حماية البيئة والتراث في النبطية. وفيما يؤكد العاملون في هذه المهنة، رافضين الكشف عن أسمائهم، أن الوضع الإقتصادي المرير، وعدم وجود فرص عمل، هو ما يدفعهم الى التعرض لكل المخاطر الناتجة عن عملية الإحراق هذه، مؤكدين معرفتهم بالاضرار الصحية الناتجة عن تنشقهم الغازات الملوثة، والتي يعانون منها وأبرزها مشاكل في الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي.

يؤكد الدكتور ماجد بعلبكي، رئيس جمعية حماية البيئة والتراث، أن هذه العمليات "تعد كارثة بيئية، خصوصا أنها تظهر للعيان من خلال الغيوم السوداء التي تغطي السماء في العديد من المناطق وأبرزها منطقة حرج علي الطاهر"، شارحا أن "هذه الكابلات تتألف من كاوتشوك ونحاس أو من مادة pvc "بولي فينيل كلوريك" وبفعل احتراقها تنتج أسوأ أنواع الغازات الملوثة على الإطلاق وتؤدي إلى الكثير من الأمراض كالسرطان والسكري والعقم وإرتفاع الضغط ، وإضطرابات في القلب والتأخر العقلي والخلل الهرموني إضافة إلى مشاكل الجهاز التنفسي والهضمي". أما عن الغازات المنبعثة وخطورتها فيؤكد الناشط البيئي والمتخصّص الدكتور ناجي قديح أن "الإنبعاثات الغازية هي من عائلة الديوكسيد وهي المادة الأكثر سمية على وجه الأرض، لأنها تحافظ على خصائصها السامة ولا تتفكك حتى بعد مئات السنين، وتنتقل من الهواء إلى الماء والتربة والمزروعات بطريقة سريعة، ما يزيد من الإمكانات الملوثة لصحتنا وصحة أجيالنا القادمة".

وعلى صعيد ملاحقة المرتكبي فإن رئيس بلدية النبطية الفوقا راشد غندور يقول: "عمليات الكر والفر بين هؤلاء وشرطة البلدية دائمة، بحيث يستغلوا أوقات العطل الرسمية لمباشرة عملهم، وبما أن ظروفهم قاسية فإن البلدية تتغاضى أحيانا عنهم". أما الدكتور ماجد بعلبكي فيؤكد مثابرة جهود الجمعية في جمع هؤلاء خلال ورشات عمل نظمتها وإقناعهم بخطورة الاضرار البيئية والصحية الناتجة عما يقومون به، ومحاولة تأمين أعمال بديلة لهم، من خلال مشروع فرّامات تفصل هذه المواد عن بعضها. رئيسة الصدنوق البيئي الدكتورة لميا منصور، التي رحبت بالفكرة كونها تحلّ مشكلة العاملين والبيئة، تقول إنّه "منذ العام 2009 وحتى الآن لم ترد موافقة على صرف أي مبلغ من المنح الصغيرة التي تقدمها الأمم المتحدة، والتي تمول الكثير من المشاريع البيئية المشابهة، لتحسين ما في هذا المجال"، وهي تطالب بـ"إعادة إثارة هذه القضية الوطينة لما لها من إضرار كبيرة".

السابق
الكافيين لمكافحة السرطان
التالي
هل تؤدي مناورة عباس لانتفاضة ثالثة ؟