ميقاتي “سرّه بعبّه”..و”الهوا السعودي غيّر اللونا”

يحتفظ الرئيس نجيب ميقاتي "بسرّه في عبّه" لجهة القلب. إنه الشمال بأمنه، وإنمائه، وتنظيماته ومنظماته الإسلاميّة المتنوعة ما بين الاعتدال والتطرّف، وعلمائه، وخطباء جوامعه، وحدوده المفتوحة على سوريا – الشام، حيث حركة التصدير والاستيراد مزدهرة وبالاتجاهين في هذا الشهر الفضيل، والزمن الوفير بغلاله الأمنية المستباحة والمستبيحة.

ويشكّل الشمال بهمومه واهتماماته نقطة في بحر هموم رئيس الحكومة واهتماماته، إنه بحر واسع الأطراف، لكنّه محاصَر بسلسلة شائكة مترامية من التحالفات الإقليميّة والدوليّة، والتي تحاول شدّ الخناق شيئا فشيئا بالتزامن مع المحاولات الحثيثة والجادة لفرض عزلة على النظام السوري تقتضيها لعبة المصالح التي لا تعرف حدودا.

وعد الرئيس ميقاتي اللبنانيين بجولة واسعة على عدد من العواصم العربية والإقليميّة والدوليّة بعيد تشكيل الحكومة، لكنها لم تتمّ، وقد لا تتمّ في المستقبل القريب، وكلما سئل: "متى صيد الغزلان؟، أجاب: "ليس في رمضان"، لكن السبب ليس شهر الصوم العابر، بل شهر سياسة المحاور.

وعد بزيارة المملكة ولقاء خادم الحرمين الشريفين، لكنها لم تتم، ولم نشاهد صورة تذكاريّة تتصدر الصفحات الأولى من الصحف المحليّة، ولم نسمع بخبر ورد. ويعود للطرفين معرفة الأسباب الحقيقية، وننأى بأنفسنا عن كلّ تبصير وتحليل واجتهاد في هذا الشأن. لكن هذه الزيارة دخلت في خانة حسابات جديدة معقّدة بعد التحالف السعودي – التركي ضد سياسة القمع الذي يمارسها النظام السوري بحقّ المناطق المنتفضة، والتي تقطنها غالبيّة سنيّة تطالب بالتغيير.

قد يزور رئيس الوزراء التركي رجب الطيّب أردوغان السعودية، أو قد يصرف النظر عنها في الظرف الحاضر لحسابات واعتبارات إقليميّة، هذا ليس بالمهم، لأنها أصبحت من الشكليات طالما أنّ المهم قد أعلن وبات معروفا، وقبل أن يصل وزير الخارجيّة أحمد داود أوغلو إلى دمشق، قدّم أوراق الاعتماد في الرياض قبل أيام، ونسّق ما يريد تنسيقه، قبل ان يتوكّل! وكان الرئيس ميقاتي يعتزم زيارة أنقرة، فهناك دعوة رسميّة، وهناك برنامج حافل أعدّه أردوغان لضيفه اللبناني، رجل الأعمال الناجح، وصاحب المليارات، لكن حتى هذه الزيارة يبدو أنّها أيضا بحكم المؤجلة، لاعتبارات تتصل بخريطة التحالفات الجديدة في المنطقة.

ليس الرئيس ميقاتي من طينة الذين يهوون الدخول في نقاش حول جنس الملائكة، والمسألة عنده لم تعد محصورة بمعادلة "يستطيع أو لا يستطيع"، فمركبه جاهز في الميناء اللبناني والطرابلسي تحديدا، لكنّ البحر طالع من حوله، وأمواجه العربيّة -الإقليميّة عاتية ومتلاطمة، حتى إنه إذا ما غامر – وهو بطبعه لا يحب المغامرات إلاّ إذا كانت مضمونة- فعليه أن يحصل على تأشيرة من المجتمع الدولي، وتحديدا من الولايات المتحدة، قبل أن يبحر باتجاه اللاذقيّة – طرطوس، او باتجاه أنقرة – إسطنبول، أو باتجاه الخليج العربي (… والإيرانيّون يشددون على فارسيته؟!).

ويتجاوز الكلام ميقاتي الشخص، إلى ميقاتي الرمز، فالحكومة اللبنانية مصادرة عن بكرة أبيها، وتقبع منزوية وراء قضبان التحالفات العاصفة في المنطقة، والتي فتحت جبهات عدّة، ودفعة واحدة، حتى ينزف الدم في كل مكان، وحتى تمتهن السيادات والكرامات باسم تغيير وتحوّل لا نقرأ في كتابه سوى شعارات فارغة من أي مضمون.

الحكومة اللبنانية محاصرة. ولبنان محاصر بسيل من الأسئلة المسلوخة من أرض الواقع: هل هو مع النظام السوري أم ضدّه؟ السؤال من حيث تركيبته فظّ وعدائي، لأنّ الجواب المتداول محليّا لم يعد مقبولا من قبل الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والدول الكبرى الفاعلة، ودول المحور العربي – الإقليمي -الدولي المناوئ. أن ينأى لبنان بنفسه عن الوضع السوري، أن يلتزم الحياد، أن يقول "ما أريده لسوريا هو ما يريده شعبها"… إنّ هذا الكلام قد صحّ لمرحلة، ولكن لا يصحّ لكل المراحل، وكلمة السر الخليجيّة – العربيّة – التركيّة – الأوروبيّة – الدوليّة هي أن يحدد خياره ومساره، لأن "موقف اللاموقف" لم يعد مقبولا.

هل لبنان قادر أن يتحرّك بحرية مطلقة، وفاعليّة موثوقة باتجاه المملكة العربيّة السعوديّة التي خيّرت النظام السوري ما "بين الحكمة أو الفوضى"، وباتجاه أنقرة – أردوغان، وحزب العدالة والتنمية، ومحفظة داود أوغلو المحشوّة "بالمتفجرات السياسيّة والدبلوماسيّة"، بمعزل عن إيران وامتداداتها، وعن

"سوريا الأسد" وتداعياتها؟

… وعند مشارف أمسياته المطلّة على فجر جديد، وهي طويلة خلال هذا الشهر الفضيل، وقبل أن يخلد إلى الفراش، يدلف باتجاه مكتبه الخاص، ويمسك بالقلم ليجري آخر جرّة حساب ليوم طويل كان مثقلا بالمقابلات والمحادثات، قبل أن يستسلم للنوم. جردة الحساب عنده معقدة، والأرقام هذه الأيام ليست واضحة، وفيها الضرب والقسمة، أكثر مما فيها من علامات الجمع، وخصوصا بعد الموقف السعودي من الوضع السائد في سوريا، ومن النظام مباشرة. و"السر المحفوظ في العبّ، والقريب من القلب" دونه استفهامات مقلقة.

ما التأثير الذي سيتركه الموقف السعودي الجديد في "الموزاييك" الطائفي – المذهبي – السياسي الاجتماعي في طرابلس الفيحاء وفي المناطق العكّاريّة؟ وهل الحدود المشتركة ستبقى جسرا لتفعيل المصالح المشتركة، أم لعبور شياطين الفتنة، وبالاتجاهين؟!

السابق
نجاح الاختبار الأول لنظام إنذار تسونامي المبكر
التالي
لماذا يصرّ بلمار على عدم تسليم المستندات؟