شباب يعتنق الطائفية: حاربناها فغلبتنا

كانت غريبة تلك اللحظة التي اكتشف كلّ منهما أنّ الآخر على مذهبه نفسه. فقد كانت المرة الأولى التي يلتقي فيها كميل بمحمود في تلك القاعة الدينية التي يديرها أحد الأحزاب الطائفية العريقة. تفاجأ كلّ منهما بالآخر، وقبل أن يقدم أيّ منهما على إبداء خجل ما بسبب تاريخهما المشترك في الانتساب إلى كلّ ما هو شيوعي ويساري، والمشاركة في كلّ ما من شأنه إسقاط النظام الطائفي، أدركا أنّ موقف كلّ منهما شبيه بموقف الآخر، ما جعلهما يتأقلمان مع الوضع الجديد، كأنّ شيئاً لم يكن، أو كأنّ اللون الأحمر ربما يتحول في لحظة معينة إلى لون مغاير تماماً بكامل عدّة شعاراته، ومؤونة أيديولوجياته.

ما الذي تغير؟ وكيف يمكن لذلك أن يكون؟ يجيب كميل (29 عاماً) إنّ المسألة لا تتعدى كونها انسجاماً مع "بيئة المنزل والعائلة". ويؤكد أنّ مشاركته طيلة كلّ تلك السنوات في مسيرات العلمانية وعيد العمال تحت راية الحزب الشيوعي كانت بمثابة "التمرّد على تلك البيئة العائلية". إذاً ما الذي تغير ليتحول بهذا الشكل؟ لا يجد كميل جواباً محدداً لذلك، لكنّه يراوح بين انتقاد الحالة التي كان عليها سابقاً والتي "لا تؤدي إلى مكان محدد.. فكأننا تائهون فحسب"، وبين إقدامه على خطبة فتاة وجد نفسه مجبراً أحياناً على مسايرة وضع أهلها ببيئتهم الملتزمة دينياً وطائفياً، حيث كان كـ"الغريب بينهم في البداية". أما عن اهتماماته الجديدة بالمحاضرات الدينية والفكر العقائدي فإنّه يؤكد أنّ الأمر ليس بمثابة "الصدمة" أو ما شابه، "فهي مجرد أمور روتينية.. حتى إنني أجد كثيراً من المحاضرات لا تختلف بالكثير عن مخزوني من الفكر الماركسي"!

محمود (24 عاماً) يختلف كثيرا عن كميل، فقد كان ناشطاً بشكل أكبر، رغم صغر سنه نسبياً، في التظاهرات والمناسبات اليسارية، لا سيما مسيرة عيد العمال، وتجمع انطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول). كما شارك بشكل فعال عبر المنتديات اليسارية و"الفايسبوك" ومجموعات "غوغل" في نشر دعوة المشاركة في مسيرات إسقاط النظام الطائفي. وكان من المشاركين تحت سيول الأمطار في المسيرة الأولى، كما أبدى حماسة منقطعة النظير في لقاء الأونيسكو التشاوري، وبعض التظاهرات الأخرى.
تلك التظاهرات بالذات هي التي دفعت محمود إلى "الكفر باليسار"، والابتعاد عن نشاطاته ومنتدياته شيئاً فشيئاً، خاصة أنّه لم يكن أكثر من "مؤيد" للحزب الشيوعي اللبناني، ولم ينتسب يوماً إلى قطاع الشباب والطلاب فيه، أو إلى بعض المنظمات والحركات المتصلة به أو القريبة منه. ويعتقد محمود أنّ فكره "المقاوم" ونهجه "المناهض" للعولمة وسيطرة الدول الغربية خاصة الولايات المتحدة على العالم "لن يتغير" في اتجاهه وانتمائه الجديد؛ "فهناك كما هنا من هذه الناحية". أما الاختلاف برأيه ففي "فعالية القضية وديناميتها هنا مقابل جمودها هناك وتكرارها كما هي منذ سنوات طويلة". ويعبّر محمود عن خيبة أمله من التظاهرات التي دعت لإسقاط النظام في لبنان، حيث "لم تصل إلى 5 في المئة مما وصلت إليه التظاهرات في بلدان عربية أخرى اعتدنا خضوع شعوبها ونومهم لأجيال طويلة".

بين المبدأ والزعيم

نمر ما زال يعتبر نفسه يسارياً رغم أنّ كلّ تصرفاته تدلّ على اتباعه نمطاً طائفياً سائداً. كلّ ما في الأمر أنّ نمر الذي لطالما عادى الرئيس السوري بشار الأسد ونظامه، حتى إنّه شارك في إحدى التظاهرات المناوئة له قبل عامين، وجد نفسه هذا العام أمام "مشكلة معقدة"، فهو من ناحية يعادي النظام السوري، لكنّه في المقابل لا يقبل بأيّ حال من الأحوال "أن يصل السلفيون إلى الحكم في سوريا، ففي ذلك دمار لكلّ الطوائف الأخرى". نمر الذي لم يكن يعترف بأيّ تجاوزات ارتكبها النظام السوري خلال الفترة الماضية عدّل شيئاً ما من تفكيره عقب سماعه أغنية المغني السوري سميح شقير "يا حيف"، لكنّه سرعان ما قولب المعطيات بحسب اتجاه محدد؛ "أثق بما غنى سميح لأنني أثق به… لكنّني متأكد أنّ لدى النظام السوري أسبابه لمنع ظهور الفتنة الطائفية في البلاد"، يحسم الشاب القضية برمتها.

آخرون لا ينسلخون عن الجذور اليسارية نفسها في ارتدادهم الطائفي. ونسيم الذي يعيش في إحدى الدول الأفريقية واحد من هؤلاء. مع حلول صيف هذا العام جاء نسيم كعادته السنوية لزيارة أهله. الزيارة كما العادة عبارة عن سهرات عائلية طويلة تنتهي خلال أسبوع في "أسوأ الأحوال"، فهو لا يأتي إلى لبنان لممارسة مثل هذا النشاط بل على العكس من ذلك للخروج في سهرات من نوع آخر في النوادي الليلية، حيث يختزن بعادته هذه "ذكريات بيضاء تبقى معي في ليالي أفريقيا الطويلة"، كما يقول.

لم يكن لديه إلاّ هذا الاهتمام طيلة السنوات الماضية من سنوات غربته، وهو الذي يؤمن كلياً بضرورة إسقاط كل المظاهر الدينية عن "وجه لبنان السياحي" الذي يتمناه دوماً كأوروبا. ولطالما خاض شجارات مع أقاربه وأصدقائه بسبب تأييده لأحزاب من خارج إطار طائفته، رأى أنّها "تعزز هذا الوجه الأوروبي". إذاً ما الذي تغير حتى بقي نسيم على ما هو عليه من حيث "الصياعة" وعدم الالتزام الديني من جهة، في مقابل التحول إلى "طائفي بالكامل" من جهة أخرى؟ لا يكشف الشاب عن ذلك، لكنه يكتفي بتشغيل هاتفه النقال على صوت زعيم لبناني طائفي يبرز إعجابه الشديد به، مؤكدا أنّ هاتفه يحتوي "كلّ خطبه وتصريحاته".

سند طائفي

أيمن كذلك أحدهم، لكنّ مسألة انتقاله إلى "الجبهة الطائفية" كانت لأسباب أوهى بكثير مما لدى الآخرين. لا يتوانى أيمن (28 عاماً) عن التأكيد أنّ الأمر "مجرد مصلحة". فالشاب الذي بقي بعيداً عن الأحزاب طوال فترة دراسته وعمله بعد التخرج، تمكن من الحصول على وظيفة في القطاع العام قبل فترة وجيزة، من خلال أحد الأحزاب الطائفية، الأمر الذي جعله يعدّل بعض الشيء من مواقفه تجاه هذا الحزب الذي ينتشر في محيطه. لكنّ المحطة التي جعلت أيمن يبادر إلى الاتصال بأفراد الحزب والتقرب منهم وحضور الاجتماعات الخاصة به، كانت ممارسة الموظفين لنوع من "التمييز الطائفي" تجاهه.

هكذا يعتبر أيمن أنّ مبادرته ليست أكثر من مجرد "ردّ فعل لا بدّ منه"، فقد أمّن له هذا الأمر التواصل مع موظفين آخرين في المؤسسة "أصبحوا بمثابة السند لي هناك حيث لا يجرؤ الآخرون على مجرد النظر إليّ نظرة خاطئة" يتحدى الشاب.
قد يعتبره البعض "ارتداداً"، وقد يعدّه غيرهم "اهتداء"، وما بين هذا وذاك يبدو أنّ تبديل المواقف والمناهج والأيديولوجيات في لبنان سلس جداً، بما تمليه ظروفه المتقلبة وتحالفات أحزابه المتبدلة ومصالح أفراده المتداخلة، وهو ما يؤكده محمود بالذات حين يقول: "لست أول من قام بذلك، وانظر إلى المسؤولين في الأحزاب الطائفية، قبل الأفراد، كيف أنّ كثيرين من بينهم يملكون جذوراً يسارية معروفة".

السابق
الانباء: موقوفون جدد على طريق المحكمة الدولية
التالي
أجهزة تنصُّت لمراقبة الزوج