رمضان: في هجاء الإيمان المؤقّت والعبادة الإنتقائية

 يأتي شهر رمضان في كل سنة، ويهل هلاله، فتسارع الأمة الاسلامية إلى طلب المغفرة، والتوبة من رب العالمين. ففي هذا الشهر الكريم تفتح أبواب الجنة وتغلّق أبواب النار وتغفر الذنوب وتمحى الخطايا… إلا أن الواقع يختلف، إذ ان شهر العبادة فقد الكثير من روحه التقليدية التي كانت موجودة أيام آبائنا وأجدادنا، لاسيما الزامية الصوم فيه، والمواظبة على الشعائر الدينية من أدعية وابتهالات لله عز وجل، إلى التجمع عقب الافطار في المساجد والاستماع الى المواعظ الدينية. فهذه العادات والتقاليد بدأت تخفت، إذ انقسم الناس وبات كل منهم يراه من منظاره ويتناوله على طريقته.

 يرى البعض من شهر رمضان فرصة للاستفادة منه حتى دقائقه الاخيرة، فيلجأون إلى الصلاة والعبادة والدعاء بقراءة القرآن الكريم والصلاة واحياء كل الشعائر الدينية التابعة لكل يوم منه ومن ضمنها ليالي القدر، آملين من ربهم أن يسدد خطاهم ويضاعف ايمانهم، ويمحي ذنوبهم، ويعتقهم من دخول النار. وهذا هو الهدف الاساس من هذا الشهر، الذي بعث به الرب إلى الرسول محمد (صلعم) ليأمر به قومه، ويقنعهم بتطبيقه لنيّل الرحمة والغفران.

 لكن هناك قسم آخر تنقلب مقاييس حياتهم التي ارهقتها الخطيئة لاحد عشر شهرا،  فتتوجه عقولهم وأجسادهم الى الديانة والتعبد، فتمتنع فتيات هذا القسم عن اظهار مفاتنهن، وتلجأن الى استبدال ملابسهن الضيقة والقصيرة و"اللحمية" بملابس اكثر حشمة والتزام، وهنالك بعضهن يجنحن الى ابعد من ذلك بكثير، فيضعن الحجاب المؤقت على اعتبار انهن يمتلكن مفهوما خاصا عن الايمان أو قناعة نفسية بأن ختم القرآن الكريم والصلاة وارتداء الحجاب… لشهر واحد، يوصلهن إلى الجنة. لكنّ السؤال هنا: هل إنّ الفتاة غير المحجبة هي حكماً غير مؤمنة؟

 أما شبان هذا القسم، فهم يمضون اشهر السنة – ناقص واحد – بين اللهو وتوابعه من امور بعيدة كل البعد عن كل ما قد يسمى بـ"الايمان"، وتراهم في شهر رمضان يمتنعون عن ممارسة بعض التجاوزات الشرعية، فلهذا الشهر قدسية خاصة باعتقادهم. فهو واجب منزل ومتوارث منذ آلاف السنين، فلا كحول ولا فتيات وحانات ليلية، وبدلا منها هناك العبادة المؤقتة بين المساجد، والسحور وطلب المغفرة.

 وهناك من لا يصوم متذرعاً بالاسباب الصحية، أو بظروف عمله الصعب الذي يمنعه من الصوم لحاجته للشرب، وهو أمر بسيط عند الطائفة السنية، يقرر وينفذ فيفطر، بينما عند الشيعة الوضع أكثر تعقيدا، فمن أراد الافطار دون عذر واضح يحتاج إلى السفر لمسافة تفوق 30 كلم، فيصبح مفطرا، وافطاره قانوني ودينيّ وشرع، وكثيرون تراهم يذبون الى صيدا ويعودون كلّ يوم ليفطروا.

 أما القسم الاكبر من مسلمي هذا الزمن فباتوا يقلبون صورة الشهر الفضيل رأسا على عقب. منهم من لا يصوم ولا يفكر برمي سيجارته من يده وإن لثانية واحدة، ولا يخجل من تناول الطعام والشراب في العلن، غير آبه للصائمين وعطشهم. ومع ذلك فهؤلاء يفطرون مع الصائمين ويتسحرون معهم ايضاً!! ومنهم من يصوم ليصوم فقط، لأنه ورث هذا الواجب عن اجداد اجداده، فيمضي نهاره بالصراخ او النوم و"النق" والتأفف "محمل ربه جميل" هذا العناء الذي يعانيه بالجوع والعطش المؤقتان. وما ان يسمع آذان المغرب حتى يصل الى طاولة الافطار ملتهما المأكولات الكافية لاسبوع، وينهي ليلته مسمراً امام شاشة التلفاز متنقلا من برنامج إلى آخر ومن مسلسل إلى مسلسل، لاسيما وان شهر رمضان تحوّل ليصبح أضخم ساحة للتنافس الفني بين الدول العربية، تاركين لـ"الصائم" الفرصة ليختار من بين تشكيلة واسعة ما سيشاهده أثناء تناوله الحلويات العربية المشكلة والفواكه المتنوعة، الطبيعية منها والمجففة، ويستمر بطلا لهذا المشهد الى وقت السحور، حين يأكل ما تيّسر وما يمكن لمعدته ان تهضمه بعد التلبك المعوي والتضخم الذي يصيبها منه طوال الشهر المبارك.

 أيضا هناك من ينتقد ويستغرب الامور المتغيرة التي تحدث في الآونة الاخيرة في مجتمعنا الاسلامي ولاسيما في لبنان، إذ يتزايد عدد المفطرين سنة بعد سنة، ويزداد عدد المؤمنين والمؤمنات لشهر واحد قابل للتجديد فقط بعد انتهاء احدى عشر شهرا. وهناك من يقول إنه لا يحق لأحد إتهام الآخرين بنقص ايمانهم ولا محاسبتهم وانتقادهم، فالانسان حرّ ولكل واحد قناعاته ومعتقداته التي يؤمن بها، فالنيّة هي الاساس وللخالق وحده الحق في تحديد الثواب والعقاب.

وصحيح ان رب العالمين "غفور رحيم" يرأف بعباده ويفتح لهم ابواب الرحمة وجنان المغفرة، فيطهر العاصين فقط من ذنوبهم التي يمكنه تطهيرها، ولكن من غير المفيد ان ينسى اصحاب العبادة المؤقتة، والدين المقنّع بألف قناع ولون، أنه هو نفسه "الشديد العقاب"، فلكل فعل ردّ عليه، ولكل شيء حدّ "وكل شي زاد عن حدّه الطبيعي نقص".

 

 

السابق
انفجار مولد كهربائي في الغبيري
التالي
حسن بحث ظروف اختطاف العيسمي مع شهيب وعائلته