البعث الفئوي الشمولي: من نظام قمع إلى نظام فتنة إلى نظام غزو

بدأ الغزوّ. ليس عند منظومة الممانعة حلّ آخر. فـ"الحلّ الأمنيّ" بالشكل الذي ذاقه الشعب السوريّ البطل والأعزل وواجهه وكسره في الأشهر الخمسة الماضية باءَ بفشل ذريع.
خيار المجازر المتسلسلة والمتنقلة لم يفعل إلا تأجيج الإنتفاضة الشعبية وتحويلها إلى ثورة وطنية ديموقراطية شاملة تحتل موقعاً طليعياً بين ثورات الربيع العربي، فكان لا بدّ من خيار المجزرة الكبرى والشاملة. والنظام، الذي يعدّ الأكثر فئوية وشموليّة في آن من بين كل الأنظمة التسلّطية التي أقامها "طواغيت التحرّر الوطني"، لم يعد لديه ما يحتمي به من "شعبه"، عفواً من الشعب السوريّ، فلا وجه صلة، إلا بالانتقال من طور جرائم إرهاب الدولة إلى طور جرائم الحرب إلى طور الجرائم ضدّ الإنسانية، وهو الآن في صدد استحقاق نيشان جرائم الإبادة.
النظام البعثي الفئوي الدمويّ لا يستطيع أبداً التعايش مع ظاهرة "المدن المحرّرة". حسناً، لقد قرّر غزوها. قرّر الدخول عنوة، بالحديد وبالنار لمدن سيّرت تظاهرات مليونية لأسابيع متتالية تهتف للحرية ولسقوط السفّاح. لكن النظام لم يعد بهذا مجرّد نظام دمويّ يقمع من أجل البقاء، أي من أجل عودته إلى التسيّد على هذا الشعب. في البداية كان كذلك، كان نظام قمع. ثم تحوّل إلى نظام فتنة، أو عاد إلى طبيعته الأولى تلك. أمّا الآن فهو نظام غزو. لم تعد الغاية هي إعادة التسيّد على هذا الشعب. ليس هناك من عاقل يمكنه أن يحتسب ولو كاحتمال افتراضي أن يعود النظام الفئوي الشموليّ للتسيّد على هذا الشعب.
فالقمع شيء والغزو بهذا المعنى شيء آخر تماماً. القمع يعوّل عليه من أجل البقاء. أما الغزو وإن بدا في جانب منه تسعيراً نوعياً في منسوب وحجم ونوعية القمع ورقعته، فإنّه استرسال في مرحلة "ما بعد القمع". من خلاله يظهر النظام كنظام اجنبي، يحتل شعباً لا علاقة له به، لا من قريب ولا من بعيد. انه نظام احتلال واستيطان.
وإذا كان النظام تعامل مع لبنان كمستعمرة في العقود الماضية، فإنّه اليوم يتعامل مع سوريا نفسها كمستعمرة، لا بل كمجموعة مستعمرات يودّ أن يكون لكلّ منها ملفّ محلّي يختلف عن الآخر. فالنظام لم يعد بامكانه أن يحلم بالبقاء كنظام، أي أن يحلم بيوم يعود فيه للتسيّد على هذا الشعب. هذا محال. صار أقصى ما يمكنه أن يطمح إليه هو البقاء كنظام غزو، أي كنظام في حالة حرب دائمة مع الشعب السوريّ، سواء سقط في يوم، أو في شهر، أو في سنة، أو في السنوات المقبلة.
وبالطبع، ينبغي ألا يغيب الوجه الآخر من تجربة "الحلّ الأمنيّ" بالشكل الذي اعتمدها هذا النظام في الأشهر الخمسة الماضية. فإذا كان هذا الحلّ لم يستطع قمع الثورة، بل ساهم في تأجيجها وامتدادها، وفي سقوط آخر شبهة شرعية ممكن أن يلصقها ممالىء على هذا النظام طبعاً باستثناء الشاعر الهمجيّ الحالم أبداً بجائزة نوبل، فإنّه ينبغي الإعتراف بالوجه الآخر لهذا الحلّ: إذ لم تظهر على نحو استراتيجي بوادر انتفاضة للجيش على النظام الفئوي الدمويّ، ولا حتى بوادر انتفاضة داخل الجيش بشكل نوعيّ يرتكز عليه.
والانتقال من المجازر المتنقلة والمتسلسلة إلى المجزرة الكبرى لم يكن ممكناً لولا فشل "الحل الأمني" في قمع الثورة والحؤول دون امتدادها من ناحية، وفشل هذا "الحلّ" في ما كان يطمح اليه الثوّار في احداث نقلة نوعية في موقع هذا الجيش، أو على الأقل في جعله يقف على "الحياد" على نحو استراتيجي، وليس على نحو متفرّق كما في بعض الحالات.
فلا بدّ من التذكير هنا بأنّ النظام البعثيّ عمد منذ مطلع الستينات إلى حلّ الجيش الوطنيّ السوريّ وإعادة تركيبه من جديد في صيغة "الجيش العربيّ السوريّ" وبحسابات هرمية طائفية فاضحة. إنّه يختلف من هذه الناحية عن الحالات الأخرى التي بقي فيها الجيش على مسافة من النظام، فحتى الجيش العراقي الذي فرطه بريمر كان يدخل ضمن هذه الفئة.
ما يحصل الآن هو إذا نتيجة لانعقاد أمرين: فشل الحلّ الأمنيّ في قمع الثورة، وفشل الثورة في حمل الجيش على النظام. هذه المعضلة تمثّلت بظاهرة "المدن المحرّرة" في داخلها، والمحاصرة من النظام. للخروج من هذه المعضلة اقتحم النظام المدن غازياً. لكن السؤال البسيط الذي يُطرح حينها: ماذا يبقى من هكذا نظام لو أجبر على إعادة سحب دباباته مجدّداً في الأيّام المقبلة؟
الجواب الممكن، إذا ما امتلك السوريّون الجرأة على الكفاح، والجرأة على النصر: لا شيء، حتماً، لا شيء!
 

السابق
على طريق الهاوية
التالي
سوريا.. سقط النظام!