حديث “الزّودة”

صاحبي موظف متقاعد في القطاع العام. أوائل كل شهر نقصد معاً الصرّاف الآلي الأقرب، ثم نلتقي في الدكان الكبير المجاور، يكدّس كلٌّ منّا في عربته ما يظن أنه "مونة" الشهر للعائلة، ونتبادل الحديث…، وغالباً ما نتقاسم الشتائم التي نوجهها معاً في حقّ هذه الأيام الشاحبة، وفي حقّ الراتب الضحل الذي تزيد أسعار كل السلع وهو ثابت لا يزيد… بل تنقص قيمته الشرائية. ونزعم أن ذلك هو نتيجة السياسة الاقتصادية غير الحكيمة… وغير المهتمة أصلاً.
وتجدر الإشارة هنا بأن شتائم صاحبي تكون دائما أكثر من شتائمي وأقوى وأكبر. فالرجل، والحق يُقال، يتفوّق عليَّ في هذه المادة، ربما لأنه موظف متقاعد.. وما أدراك ما يحمله الموظف المتقاعد على الدولة…!
إلى هنا تبدو الحكاية عادية تماماً، ويعرفها الجميع، أعني جميع من تسميهم التلفزيونات "ذوي الدخل المحدود"، وتعني بهم السواد الأعظم من موظفي الدولة، ومعهم موظفي دويلات أرباب العمل.
اليوم تزداد وتيرة الكلام عمّا يسمّونه "تصحيح" الأجور، وهو في معظمه كلام شبه رسمي. المقصود منه زيادة الرواتب والأجور ورفع حدّها الأدنى. وصار معلوماً عندنا أنه عندما يتبادل "المنشافون" كلاماً كهذا، فالمعنى أن زيادة على الأجور باتت في الأفق… وهذا سبب مستجدّ يدفعني إلى تخفيف شتائم أوّل الشهر وتلطيفها، على عكس صاحبي المتقاعد الذي تزداد شتائمه قوّة وفظاعة، ويعممها لتطال مستهدفين جُدُداً لا أتجرّأ على ذكر أسمائهم وألقابهم ووظائفهم… ذلك أنه، وكما سبقت الإشارة، موظف متقاعد، ولا أمل له بأيّ زيادة على راتبه التقاعدي. والسبب كما يعلم الجميع هو أن حامل أختام سابق كان "ميزانتروب" يكره الناس ولا يحبّ أحداً، فراح يتصرّف على طريقة الأنبياء الكذّابين، فتصنّع الغيرة على ما أسماه "المالية العامة"، واشترى هالة تعمل على البطّارية. وقد دفعته الكراهية إلى مدّ يده بوقاحة إلى رواتب الموظفين، فراح يتذاكى بـ"تشحيلها" على طريقة ما جرى في أقصوصة القطّتين والقرد وقِسمة الجُبنة، ثم وصل إلى رواتب المتقاعدين، فحكم عليها بالشلل والتوقف عن النموّ. ثم ارتأى أن المتقاعد لا يشتري ولا يأكل، لا هو ولا عائلته، كما يفعل غير المتقاعد، وأن القيمة الشرائية لراتبه لا تتضاءل، وبالتالي فقد منع عليه وعليها أيّ زيادة تطرأ أو قد تطرأ على الرواتب والأجور… هكذا، لمجرّد أنه حامل الأختام، ولأنه يستطيع ، ولأن أحداً لا يمكنه منعه أو مساءلته.
ومع ارتفاع وتيرة الكلام اليوم عن احتمال زيادة الرواتب والأجور، أواصل وصاحبي مشاويرنا أوائل الشهور إلى الصرّاف الآلي ثم إلى الدكان الكبير، ونواصل الشتائم، أنا بحق هذه الأيام الشاحبة وبحق الراتب الذي يتصاغر، وهو بحق الراتب وبحقّ قادتنا جميعاً، منذ فجر حضارتنا التي نُصِرُّ أنها أضاءت الدرب أمام الإنسانية، من نبوخذ نصّر وأحشورش وأسرحدّون في بلاد ما بي النهرين، حتى هملقار برقة وقدموس وأحيرام في تخوم صور، مروراً بهنيبعل الذي مات مهزوماً – مسموماً، حتى المير بشير الذي لفرط عدالته، بَقَرَ بطن الجنديّ بحثاً عن اللبن… وصولاً إلى حكومة اللون الواحد التي …؟؟
ترى… هل ستعيد هذه الحكومة حقّ الموظف المتقاعد، أم تراها ستنضمّ إلى إلى أخوية حكومات "إسمَعْ تفرح، جرّب تحزن"؟
أنا لا أعرف الجواب. لكن صاحبي إياه يؤكد أن كيس الفحم لا يُخرج غُباراً أبيض.

السابق
حايك:الاميركي يسعى الى تجزئة قوى الممانعة والمقاومة
التالي
كنعان:فرع المعلومات الى حجمه وصلاحياته الطبيعية