يا رايح الشرطة

عزيزى الطالب الناجح فى الثانوية، أولا ألف مبروك، ثانيا لقد سمعت أنك عقدت العزم على الالتحاق بكلية الشرطة، فاسمع أولا هذه الحكاية الطريفة:
قبل سنوات، كان هناك نصاب بارع لا أعرف كيف قبضوا عليه، كان يوهم ضحاياه بأنه يستطيع من خلال علاقاته القوية إلحاق أبنائهم بكلية الشرطة، فقط مقابل عدة عشرات من آلاف الجنيهات، وكان يعقد مع أهالى الطلبة اتفاقا ممتازا، يضمن لهم أن يستردوا أموالهم بالمليم، إذا فشل فى إلحاق أبنائهم بالكلية ذات القوة والصولجان، وكان يلتزم بوعده فى كل مرة، هل هناك اتفاق أفضل من ذلك؟ فأين المشكلة إذن؟
المشكلة كانت أن الرجل لا يمتلك أي علاقات من أى نوع، كل ما فى الأمر أنه يحصل على الأموال من عشرين أو ثلاثين أسرة، وهو ما يعنى أن من بين المتقدمين لا بد وأن ينجح اثنان أو ثلاثة وربما أكثر، فتصب أموال أهاليهم فى جيب النصاب طبقا للاتفاق، بينما يسترد غير الناجحين أموالهم. ولا من شاف ولا من درى.
استمر النصاب فى أداء «مهمته» عدة سنوات، ثم أبلغ عنه أحدهم، فتم إلقاء القبض عليه، ترى من أبلغ عنه؟ هل كان أحد المستفيدين أم أحد الخاسرين؟ هل كان شخصا شريفا أم نصابـا آخر بارت بضاعته؟ لا أحد يعلم. الخبر الصغير فى صفحة الحوادث لم يذكر تفاصيل أكثر.
عزيزى المتقدم إلى كلية الشرطة، ليس الغرض من الحكاية السابقة نفى أو تأكيد ما يتردد حول أموال يدفعها البعض إلى البعض لضمان النجاح فى كشف الهيئة، فذلك أمر كان -ويبدو أنه سيظل- فى طى الغموض، الأهم هو أنك تعرف، ولا شك، لماذا كان بعض الناس على أتم استعداد لدفع كل ما يملكون لإلحاق أبنائهم بكلية الشرطة، ولا بد أنك تعرف أنه لا شيء دون مقابل، وكما كان رجل الأعمال مستعدا لإنفاق الملايين لدخول البرلمان، لأسباب لا تتعلق قطعا بالرقابة على الحكومة، فإن الراغبين بشدة -لدرجة دفع المال- فى أن يصبح أبناؤهم ضباط شرطة، لم ترتبط رغبتهم دائما بخدمة الشعب، أنت تعرف أن حلم ضابط البوليس، كان يعتلى هرم أحلام الطبقة الوسطي -العليا لا تحتاج والدنيا لا تحلم- لأسباب تبدأ عند دفع الشر (عن أنفسهم طبعا) وتنتهى عند امتلاك النفوذ.
أخى ضابط المستقبل، لا أعرف إن كنت شاركت فى المظاهرات فى أثناء ثورة يناير، قلبى يقول إنك لم تفعل، ولا شك أنك عندما كنت تبدأ عامك الدراسى المنقضى، حالمًا باليوم الذى ترتدى فيه بزة طالب الشرطة، لم تكن تعرف أن منتصف العام سيشهد بداية نهاية عصر «الأسياد»، وأن لقب «باشا» الذى ألغته ثورة يوليو سيختفى من حصنه الأخير فى لاظوغلى، لم تكن تعرف أنك عندما تنتهى من امتحانات الثانوية ستكون عبارة «ضابط بوليس» قد تحولت من شرف إلى ما يشبه الاتهام، وأن عبارة «الشرطة فى خدمة الشعب» سوف تتحول أخيرا من شعار إلى مطلب جماهيرى يضحى الناس بأرواحهم لانتزاعه من فوق حائط القسم وإنزاله إلى أرض الشارع.
أخى، خلال سنوات قليلة ستتخرج وتحمل على كتفيك شعار الملازم أول، ولأننى لا أضمن ما سوف يلقنونك إياه فى الكلية، فدعنا نتذكر معا ما يلي:
لا أحد فوق الناس، كلنا ولدنا ضعافا، عرايا، باكين، وسط العرق والدم والدموع، لا فرق بين مصرى وآخر، بين رجل وامرأة، بين غنى وفقير، بين مدع ومتهم، ولا أحد فوق الحساب، تأمل صور السجون والمحاكم وقد امتلأت بمن كانوا يملؤون الدنيا ويشغلون الناس، لتعلم أن الحساب قد يكون فى الدنيا قبل الآخرة، وبأيدى البسطاء قبل الرؤساء، وأن ما بين القصر والسجن قد لا يزيد على غمضة عين، وأن من كان يمشى بين الناس مختالا فخورا قد يقبع وراء القضبان منكسرا ذليلا، أو يخرج إلى معاش كئيب فلا يسأل عنه ولا يزوره أحد.
واعلم أن جريمة التعذيب لا تسقط بالتقادم، فلا تغرنك سلطة مؤقتة أو سنوات مطمئنة، ولا يخدعك زميل متواطئ أو رئيس متجاهل، ولا تغريك ضحية ضعيفة أفقر من أن يساندها أحد، ستمر السنون وسيرحل من كان يحميك، وقد تجد نفسك فى آخر العمر أمام ماضيك ليحرمك من كرامة الشيخوخة.
وتذكر أنه منذ الحربين العالميتين، قرر العالم أن لا يعتد بحجة «تنفيذ الأوامر»، وأن طاعة رئيسك فى جريمة هى جريمة أشد، والجرائم تعيش ما دام عاش ضحاياها، أو أبناء ضحاياها، وهم لن ينسوا أبدا، فاحرص على ضمير ك حتى تستطيع فى لحظة الحقيقة أن تقاوم الأوامر.
وأخيرًا، لو كنت فظًا غليظ القلب فلا تلتحق بالشرطة، فالطبع يغلب التطبع، وانظر إلى لافتة الكلية ستجدها قد تحولت من «أكاديمية مبارك» إلى «أكاديمية الشرطة»، وفى ذلك عبرة لمن يعتبر.
 

السابق
الحريري: بلد يسود فيه حكم السلاح غير الشرعي لا يمكن ان يستميل أبناءه
التالي
ترو: المحاصصة الطائفية لازالت عائق امام الكفاءة في الادارات