بيوتات عاملية حملت لواء المعرفة وتوارثتها منذ ما قبل الأربعينات

 من شقرا إلى البازوريّة إلى قرى ومدن عاملية أصدر شبابها منذ أواخر الأربعينات مجلات شهرية تتناول واقع هذه القرى، السياسي، الاجتماعي، تبدأ بالمراهقة السياسيّة الحاملة لهموم أكبر منها بل تتخطى حدود لبنان إلى أمة العرب، هنا نسرد بعضاً من هذه "المراهقات". تلتفت إلى الماضي العاملي كما هو حالم… ثوري حتى الزمن الآتي:
تميّز بعض تراث جبل عامل منذ بداياته بفقر مادي هان على الآخرين. لماذا نلجأ إلى الماضي؟ لكن الحاضر أفق مغلق، والمستقبل لن يأتينا بـ"بياع الخواتم" لتزدهر من بيادر الأحبة. فالزواج الكاثوليكي بين الجنوب والواقع المسروق من تحت أقدامنا "حافزان مهمان" لمثل هذا الهروب… والواقع أن الواقع يتطلع إلى المكنسة السحرية، ليهرب من نفسه. ذلك أننا في راهننا نقتل الناطور ولا تأبه لدالية تتعمشق – أو تحاول – أن تصل إلى بطون أرهقها الجوع والظمأ، فالحاضر هو مفخرة لأهله فليأخذوه.
لا أحد ينكر ما للجنوب من عطاءات إبداعية غطت كافة ميادين الشعر والنثر، الشريعة والفقه، إلى دلوها عن جوانب الحياة الدينية والدنيوية وكان دائماً رأس حربة ضد "العثملي" ومن بعد على انتداب انتدب ليأخذ مكاننا في الحضور. العادة جنوبية بحت شملت عوائل بأكملها وكأنها إرث طبيعي كما الأرض الطيبة مع منجلها الذي يحصد سنابل العيش، ومثالاً وليس حصراً لمن زرعوا عنفوان الماضي، لكن المستقبل خانهم. رغم أنهم ما زالوا يتناوبون على ذلك الإرث العتيق الملهم لعائلات: آل شرف الدين، الأمين، الهاشم، مغنية، الحسيني، الحكيم، والصدر إن حكى، وتطول القائمة إلى أدهم خنجر وحسن السكران والذين زرعوا دماً تحت كل زيتون.
صدى شقراء
ليس الاسم لفتاة، بل لقرية يصل شعرها إلى الينابيع. مجلة أصدرها في أربعينات القرن الماضي السيد عبد الله مرتضى الأمين. اهتمت بأخبار جبل عامل، وشقرا تحديداً وحوت إنتاجات ثقافية: شعر، قصة قصيرة، طرائف وفنون.
من أهم الأسماء التي ساهمت فيها: أحمد المختار السيد محمد علي الأمين، محمد رضا الأمين، ومحمد غالب الأمين. توقفت عن الصدور سنة 1948 بسبب مجزرة حولا عندما دخل المحتلون الإسرائيليون إليها لفترة امتدت إلى سنوات سبع، وكانت حصيلة صدورها 109 أعداد.
كانت "صدى شقراء" تعتمد النسخ اليدوي، وتوزع على الأصدقاء والمعارف، ومن بعد تأخذ طريقها إلى المهجر… وداكار تحديداً باعتبارها كانت تحتوي على أكبر عددٍ من المهاجرين اللبنانيين. ومنها اقتطف من افتتاحيتها الأولى بعضها: تحت عنوان: مرفوعة إلى أدباء شقراء: لا شك أنكم تعلمون جميعاً أن جريدة صدى شقراء هي باسم الشباب الخاصة والأدباء الكبار العامة، لذلك فهي تعتمد على جميع الأدباء في مساعدتها الأدبية ومن واجب كل أديب أن يحوطها بعنايته ورعايته….. ما لاقيناه من تشجيع ومساعدة أدبية، خصوصاً الأديب والشاعر الشهير السيد هاشم م. الأمين، فأنه أرسل لنا المقال حال وصول الدعوة إليه. وكذلك، فإننا نشكر كل أديب يساعدنا وإن كان من واجبه خدمة الأدب.

"اليقظة" عن البعث
صدرت عن حزب البعث في صور. ويشرف عليها حسين شرف الدين تحريراً وطباعة وسحباً على "الستانسل" الفنان غازي قهوجي إخراج الغلاف وكتابة الخطوط والرسم. جمال قدادو توفير المواد واقتراح الموضوعات المنوى تناولها. كانت المجلة توزع بعد طباعتها (سحبها) في الكلية الجعفرية سراً، وآخر عدد صدر منها يحمل تاريخ 11/1/1960 (العدد الثالث) وفيه كُتب دون توقيع (مقتطفات): إن حركتنا اختلفت اختلافاً نوعياً لا كمياً عن كل ما سبقها من حركات في وطننا العربي فطرحت قضية الأمة العربية طرحاً ثورياً لأول مرة منذ مئات السنين… طرحاً انقلابياً كما اعتدنا أن نقول… واعتبرت الأمة العربية في مرحلة ثورية كاملة… ثورة تاريخية، وأنها مهيأة كل التهيوء لتحقيق هذه الثورة إذا انتشر وعيها بين الجماهير.
نظرت حركتنا إلى أمتنا فأعلنت وحدتها، رغم جميع المظاهر التي كانت تتحدى هذه الوحدة في كل لحظة وفي كل عمل… وأعلنت في نفس الوقت أن رسالتها إنسانية رغم أن جميع المظاهر كانت تتحدى هذا الإعلان.. وهذا الادعاء رغم أن الأمة العربية في حالة سلبية ناقدة لأي إبداع تعيش عالة على غيرها. فأكدت حركة البعث رسالة الأمة.
كل هذه الأشياء تنبع من نظرة واحدة.. من نظرية ثورية… النظرة المتجددة البعيدة المدى الطويلة النفس التي تنظر إلى المستقبل نظرة ليست كنظرة الشعراء. إن نظرتنا من أجل الوحدة هي نفس معركتنا من أجل الاشتراكية… وكانت بداياتنا منذ أن بدأنا النضال.
…وحين ندرك بأن كرامة الإنسان والاستغلال لا يمكن أن يجتمعا في آن واحد… حين ندرك هذا نكون قد بدأنا خطوتنا الأولى نحو الاشتراكية. إن الوحدة والحرية والاشتراكية أسماء مختلفة وأهداف مترابطة. فإذا فصل إحدهما عن الآخر فقد هذا الآخر قيمته ومعناه… إذ لا معنى للحرية مع الاستغلال ولا معنى للوحدة في ظل الإقطاع والرجعية.

"الطليعة"
…وهي مجلة سياسية أصدرها أيضاً حزب البعث العربي وكان مسؤول تحريرها عبد الكريم عبد النبي الحر ود. علي رائف غندور. صدرت من جباع تحت Logo شباب الطليعة العربية وذيّلت عددها الأول الصادر عام 1960 بـ:
يا شباب العرب هيا
وارفعوا الصوت قوياً
لبلوغ الأرب
عاش بعث العرب.
ومنها: "جاء جمال (عبد الناصر) فكانت الوحدة. وطافت الابتسامة على شفاه الأجداد، وهطل الندى على قبر صلاح الدين، وأورقت جذوع المشنقة التي علق عليها ذلك الرعيل الأول من مجاهدي سوريا، وتهامست قبور الشهداء يلقي ساكنوها تحية المساء ثم يرقدون في سلام إن كل شيء بخير فقد أتى الفارس الذي اسمه الأمل".
وعن لواء الاسكندرون الذي أهدره الزمن وصار بعد عام 1933 تابعاً إلى تركيا يعبر الحزب البعثي عن موقفه: "أمام تلك النكبة إننا كشباب طليعة واعية، نقول أن موازين القوى قد تغيرات اليوم فانتفضت الأمة العربية من غفوتها (على إثر اجتياح الجيش التركي للحدود مع سوريا عام 1939) بفضل نضال أبنائها الأحرار فتدحرجت تيجان الخيانة وهوت رؤوس الاتباع وقامت حكومات وطنية تنادي بوحدة العرب، وتعمل على تحقيق هذه الوحدة، وهبت القومية العربية تذكي نار الثورة في أقطار العرب، فتدفع الشعب إلى الأمام… إلى النصر على الاستعمار والصهيونية فالنصر على المغتصبين و"أبطال التجزئة" وكما انتصرت القومية العربية في بور سعيد ودمشق (وهذا ما لم يحصل – الكاتب) فستنتصر في الجزائر وفلسطين وفي لواء الاسكندرون، وليمت أعوان الاستعمار وأسيادهم في غيظهم.

المراهقة السياسيّة
لا شك أن الطابع الغالب على هذه المجلات الثلاث كان المراهقة السياسية كما هو حال اليوم، بعيداً عن النيات الصادقة، فالعرب لم تنجب سوى الشعارات والشعر، تتكيء عليهما كقفزة إلى مستقبل مجهول. أو هروب إلى الأمام. فما كان حلماً البارحة عصفت به رياح اليوم أو الأمس القريب، ترى ماذا كان لرجال مضوا عن يومنا الحالي الذي يزدهر بالحمى الصفراء؟
بالتأكيد إن لكل زمن ثقافته ورجاله، ولكن من الملاحظ أن الأدب العاملي السياسي – الاجتماعي كان يقفز إلى الهوى برغبات مشروعة دونها التدرج لواقعنا المتردي، والميؤوس منه. فعقارب الساعة تمشي على وتيرة عكسها، وكما دفع الجبل العاملي من أثمان باهظة وركب عربة لا تصل؟ إن شغفه العاطفي ما زال بين بنان القبضة الواحدة.

"المزابل"
نأتي أخيراً إلى مجلة "المزابل" لصاحبها الشيخ أحمد حدرج من البازورية. وعبثاً، حاولت أن أستحصل على نسخها. على أن أبوابها لم تلامس السياسة فحشرت نفسها بأحاديث عن: التنور، العين، الجاروشة، الأعراس، الوفيات وباب الطرائف، بمعنى أنها مجلة اجتماعية بحت ترصد حياة الفلاحين، من العناوين أعلاه، ولأنها تنتمي إلى قرية صغيرة (آنذاك) فلم يكن لها ذلك الوهج الذي كان لغيرها مما ذكرت من مجلات حاولت ان تستنهص (!) ما لم يكن الجنوب عموماً متأهباً له.
في كل الأحوال، ما تقدم صفحات من جبل عامل، علها تعيدنا إلى ما كنّاه في الماضي وما نرومه غداً.
 

السابق
سلمان نزّال معاناتُهُ أَزهَرت شعراً وأدباً
التالي
شاعر المحكيّة المعاصر سعيد حيدر يكتبُ مقاماته العاملية