أسطول الحرية: المنجز المتحقق قبل الفصل الأخير!

يكاد الذي أحاط بمبادرة اسطول الحرية الثاني الى غزة أن يكون سوريالياً: لقد تدخل في شأنه، وبشكل علني ومتكرر، زعماء العالم قاطبة والهيئات الدولية كلها. بان كي مون، وأوباما، والاتحاد الاوروبي، ثم حكومات هذا الاخير منفردة ثم الرباعية… وكلهم يقولون أنهم ضد حصار غزة، ولكنهم كلهم لا يؤيدون توجه السفن الى القطاع لأن ذلك «يستفز» اسرائيل و»يرفع منسوب التوتر في المنطقة». وكلهم يلخِّصون مشكلة الحصار بتوفير الطعام والدواء لأهل القطاع، ويروحون يقيسون مدى التقدم المتحقق بفضل الضغوط السياسية التي مارسوها هم من جهة، وبفضل سقوط تسعة قتلى من أسطول الحرية الاول في العام الماضي، مما تسبب بحرج كبير لإسرائيل جراء «استخدامها المفرط للقوة» كما يقال، حملها على التعويض عن ذلك بتخفيف بسيط لإجراءات العقاب الجماعي لغزة، المسمى حصاراً. ويأتي أخيراً ذكر عامل ثالث هو التغيير الذي وقع في مصر وجعلها تفتح معبر رفح لبعض البضائع والاشخاص، مما يخفف أيضاً من آثار الحصار.

وهذه في الواقع حسبة بقالين وليست موقفاً سياسياً جديراً بقوى عالمية. بل لا تستقيم الحسبة حتى بمقاييسها الذاتية، لأن التقارير الدولية تقول أن نسبة ما يدخل الى القطاع ما زال، رغم ذلك كله، يمثل ثلث حاجاته الأساسية. وأما ما يصدِّره القطاع الى الخارج، من فاكهة وأزهار، فيمثل 5 في المائة مما كان يصدره قبل الحصار! وفي تتمة ذلك تنطلق حملة صهيونية عالمية بلهاء، تتكلم عن الرخاء في غزة وعن اشتغال فنادق خمسة نجوم ومطاعم فاخرة فيه، للقول أن لا مشكلة «انسانية».

الجدير بالنقاش بهذه المناسبة هو مقاييس إنسانية أي مجتمع. فهل تنحصر هذه المقاييس في توافر الطعام، أو قل عدم ترك الناس يموتون من الجوع. أعلم أن اهل غزة قد لا يستسيغون الجملة التالية، ولكن لا بد من قولها: هل هم حيوانات في قفص، يُرمى إليهم بالطعام حتى يبقون على قيد الحياة، وترسل إليهم بعض الادوية لتأمين الحد الادنى من العلاج الصحي، وكفى؟ لقد رسم الانسان الاول على جدران الكهوف، واعتنى بالرسوم فكانت فناً. ومذاك، لم يتوقف البشر عن البرهان على أن صون آدميتهم يمر بالضرورة وتحديداً بما يتخطى الطعام والشراب. لذا تنتج المقاومات مقداراً هائلاً من الأدب والموسيقى والرسم، وهي لا تستقيم من دونه (مما يثير افتقاد بعض المقاومات لهذا الجانب، وهو عطب كبير ودال!). ثم تُجمع السوسيولوجيا والفلسفة على أن المجتمع الانساني لا ينتظم حول الطعام والشراب فحسب، بل ولا حتى خصوصاً. وكل ذلك يؤشر الى خطورة الاعلانات التي تحتمي خلفها السلطات الدولية أثناء تعاميها عن مشكلة حصار غزة، بإمعانها على مقاربتها عبر وزن كمية الطعام والبضائع الأخرى التي تصل الى القطاع.

«على السفينة أن تعود، سيما أنها لا تحمل مؤوناً الى غزة»، قال الناطق باسم الخارجية الفرنسية في اجابته عن سؤال حول الحماية التي يُفترض بالسلطات الفرنسية توفيرها للسفينة «الكرامة» التي تمكنت من الافلات من الحصار اليوناني لسفن الاسطول. والسفينة تحمل العلم الفرنسي ويقودها ربان فرنسي وانطلقت من ميناء فرنسي في الأصل، وعلى متنها 12 مواطناً فرنسياً. تلك الـ «سيما» بشعة حقاً! ولكن المشكل أن القوى المناهضة لحصار غزة، بما فيها السلطات الفلسطينية نفسها، تنزلق الى هذا السجال بخفة مدهشة، وتروح تقارع الارقام، وتتظلم من المأساة الواقعة على الغزاويين، وتكاد تستعطف.

لقد فضحت مبادرة اسطول الحرية الثاني الى غزة، بسبب من ضخامتها وعالميتها، هذا المنطق المعيب والتبريري للحصار، كما هي أجبرت المسؤولين الدوليين وسلطاتهم على كشف عجزهم عن ردع اسرائيل في أي مجال، أكان المتعلق بحصارها لغزة الذي يدينونه ولكنهم يستمرون في التفرج عليه، أو كان بخصوص شراستها التي يخشونها فيفضلون الطلب من الضحية ومناصريه الانكفاء، بدلا من إيقاف المجرم. وهذا يمس ليس فلسطين بل القانون الناظم للبشرية، والذي يبدو هنا كشريعة الغاب. معركة فلسطين لا تبدأ ولا تنتهي عند أسطول الحرية، وتمكنه من الوصول الى غزة أو اصطدامه بالقوات الاسرائيلية مباشرة. حملة الاسطول جزء من مجابهة نضالية مديدة، كان من المهم استعادتها لطبيعتها الصراعية من جهة (والصراع ليس عسكرياً في الأساس أو حصراً، والدليل أن مبادرة الاسطول سلمية ومدنية بالكامل)، واستعادتها لطابعها العالمي من جهة ثانية. والحملة تندرج ضمن هذه الأهداف، وقد حملتها بجدارة، وهذا منجز لعملية المجابهة ككل.

كما لا بد عند تعداد المنجزات من الاشارة الى معنى ولادة حملة عالمية منسقة، وإلى قدرتها على العمل معاً لعام كامل رغم وجود تناقضات وحساسيات بين مكوناتها، وهو أمر طبيعي. أهمية ذلك أن حركة التضامن العالمية مع نضال الشعب الفلسطيني انتقلت الى سوية اكثر تقدماً مما كانت عليه، ما يفتح المجال أمام اطلاق حملات أخرى بفعالية أكبر، تأتي على رأسها حملة المقاطعة.

تكلمنا أعلاه عن عجز السلطات الدولية. ولا بد، إذا أستمرينا في إحسان الظن، من تناول المديات التي يمكن لهذا العجز أن يجر إليه أصحابه، لجهة الانزلاق الى ممارسة التواطؤ الكامل مع إسرائيل. لقد تصرفت السلطات اليونانية كحارس شواطئ لإسرائيل، بينما تخلصت سائر السلطات من مسؤولياتها باستخدام اليونان، وإلقاء كل العبء عليها، وهي الضعيفة والمحتاجة لدعم تلك السلطات.

وبعيداً من النظريات التآمرية التي ترى إسرائيل أو الصهيونية «تحكم العالم»، إلا أن الادارة السياسية والعملياتية لـ «مشكلة» أسطول الحرية من قبل هؤلاء تثير هي الاخرى أسئلة ـ سياسية وليس أبداً أخلاقية أو خطابية ـ حول معنى المراهنة على ما يقال له المجتمع الدولي بما هو مؤسسات رسمية. ليس الاشتغال معها، فهذا ايضاً من بديهيات العمل السياسي، ولكن المراهنة على تعديل توازن القوى بواسطة هذا الاشتغال، والمطالبة بالابتعاد عن اطلاق مبادرات عامة وقوية كحملة اسطول الحرية أو حملة المقاطعة. وهو ما تدعو إليه بعض القوى التي تظن أن أصعدة الديبلوماسية و»اللوبيينغ» هي الاساس، وتضيق ذرعاً بطفولية المبادرات، عوضاً عن ادراجها جميعها في العملية الصراعية. والتوصل الى إدراك هذا واستخلاص النتائج منه هو جزء أساس من بلورة أي خطة استراتيجية نضالية تتعلق بفلسطين. الاستراتيجية التي تخص الفلسطينيين أنفسهم كما تلك التي تخص الصعيد العالمي الحامل لهذه المسألة. وهذا ليس تضامناً فحسب، بل بوصفها واحدة من نقاط الصراع المهمة حول «أي عالم نريد»؟ بمعنى شامل يخص الرؤية العامة، مثله تماماً مثل مسألة تدمير البيئة!

السابق
ايران المتنازعة بين رئيس غيبي ومرشد «رهبر»
التالي
هل اتخذ قرار بإقفال «بيت الحريري» في لبنان؟