الفقيه المجدِّد محمد جواد مغنية 1904 – 1979 صاحب المؤلفات الفقهية والأدبية والبحثية

 قليل من رجال الدين الشيعة العامليين من أحدث ضجّة وصخباً، وأثارت آراؤه جدلاً ونقاشاً حادّاً كما العلامة الفقيه الشيخ محمد جواد مغنية (1904 – 1979) خلال مسيرته العلمية التي أمضاها بين النجف الأشرف في العراق، وقرى ودساكر جبل عامل انتهاءً ببيروت وتوليه القضاء الشرعي ثم رئاسة المحكمة العليا فيها.
ترك مغنية عشرات الكتب والمؤلفات ابتغاء صلاح الدين والدنيا بأسلوبه النثري السهل – الممتنع الذي أصبح يعرف باسمه، فأثّر في جيل كامل وعرّفه على الدين بصورته الجذابة لا المنفرة التي درج عليها القدماء من العلماء والمفسرين والتي كانت تلاقي الصدود فيما مضى، مما أدّى إلى نفور الشباب وقتذاك من الدين وانفتاحهم على الأفكار الوافدة من الشرق والغرب وفي مقدمها الشيوعية السوفياتية، يقابلها الليبرالية القادمة مع الرأسمالية الغربية في الخمسينات والستينات من القرن الفائت ما لبثت أفكارها المزوّدة بأحدث تقنيات الدعاية والإعلام أن استولت على العقول، وتراجع المتدينون إلى الخلف يراقبون بألم.
وسط هذا الجو القاتم وفي الزمن الصعب كان شيخنا الأديب والفقيه محمد جواد مغنية يتألّق باثّاً الوعي لدى شرائح الشباب لا يكلّ ولا يملّ، ضارباً بالتقاليد البالية عُرْضَ الحائط دينية كانت أم اجتماعية أم سياسية، باعثاً روحاً علميّة جديدة تحاكي ثقافة العصر، والتي من شروطها كسر الأغلال وتحطيم الموروث الجامد والمعيق للحركة. ولعلّ الإقطاع السياسي كان عدوّه الأول إضافة إلى بقايا رموز في المؤسسة الدينية الشيعية التي كانت تحامي عن مصالحها بحماية ذلك الإقطاع الظالم، الذي يسعى إلى إعادة استعباد العامليين كما استعبد آباءهم وأجدادهم من قبل.

الشيخ المجتهد المنفتح
أمضى الشيخ مغنية في النجف الأشرف أحد عشر عاماً في الدرس والتحصيل العلمي حتى نال درجة الاجتهاد، عاد بعدها إلى جبل عامل عام 1936 سكن في قرية معركة قضاء صور ليكون إماماً مكان شقيقه الراحل العلامة الشيخ عبد الكريم مغنية، ثم انتقل إلى قرية طيرحرفا بعد ثلاث سنوات واستقرّ فيها حتى عام 1948. وقد استغل وجوده في هاتين القريتين لتوعية الأهالي الذين كانوا يتوافدون عليه من المناطق كافة بعد أن برز وذاع صيته، فحثهم على التمسك بالأخلاق والفضيلة ومحاربة زعماء الإقطاع الذين كانوا يتعاونون مع الاستعمار الفرنسي آنذاك ويهملون حقوق جبل عامل.
كما كان يستغل أوقاته بمطالعة مؤلفات وكتابات كبار المؤلفين والأدباء العرب الذين عاصروه آنذاك ومنهم: طه حسين، وعباس العقاد، وتوفيق الحكيم، وأحمد أمين، وشكيب ارسلان وجبران خليل جبران. وكذلك تعرّف إلى أعمال الكتّاب الغربيين وفلاسفتهم مثل: تولس نوي ونيتشه وبرنارد شو وغيرهم وألّف باكورة كتبه من وحي الحرمان الذي كان يعيشه جبل عامل فاشتهر وذاع ولا سيما بعد أن نشرته مجلة العرفان وكان عنوانه: "الوضع الحاضر في جبل عامل". ثم استمرّ بعد ذلك بالانشغال بالتأليف والتصنيف في الفقه والأصول والنحو والأدب وغير ذلك.
ومن جميل ما كتبه من شعر في مجلة "العرفان" عن رفضه لصدقات القرويين في قرية معركة عندما كان إماماً لها:
إن الذي عنده دين ومعرفة لا يستخف بأهل العلم والدين
وما تحمّلت آلاماً على ألمي وعشت مدة عمري عيش مسكين
حتى أخادع فلاحاً ليشحذني مدّاً من القمح أو رطلاً من التين!
أذل نفسي والعرفان مشرفها فإذن لست على دين بمأمون

خيبة في القضاء!؟
انتقل الشيخ مغنية إلى بيروت عام 1948 قاضياً شرعياً جعفرياً في محكمة بيروت وفي عام 1951 عين رئيساً للمحكمة العليا فيها ثم أُقيل من رئاستها عام 1956 وبقي مستشاراً حتى بلغ السن القانونية.
ولقضية إقالته من رئاسة المحكمة الشرعية الجعفرية العليا قصّة رواها في مذكراته (وخلاصتها: "أن رئيس مجلس النواب في أيامه غضب على الشيخ لأن مرشح ذلك الزعيم في القضاء الشرعي الجعفري قد سقط في الامتحان. كما أن وزير الزراعة كاظم الخليل وهو محام ومن زعماء الإقطاع كان وكيلاً في قضية إرث عن والدة المتوفى وأراد ذلك الوزير أن يحرم أولاد المتوفى في تشيلي إرث أبيهم ويورث جدتهم حتى يكون شريكاً لها في التركة بموجب اتفاق ثنائي فيما بينهما وقد راجع ذلك الزعيم الشيخ مغنية عدة مرات مُرغباً تارة، ومرهباً أخرى وحاول الشيخ أن يقنعه أن ما يطلبه منه حرام، ومستحيل في شرع الله ولكن ذلك الزعيم لم يقتنع إلا بمصلحته وقد قال في مذكراته: ولكن هل أنفي الابن اليتيم من ميراث أبيه لأن الزعيم الخطير يريد ذلك؟ وهل هذا عذر عند الله سبحانه؟… وأصدرت الحكم… وهو مسجل في المحكمة الجعفرية العليا برقم 108 أساس 23 تاريخ 28/12/1955".
وقد حياه صديقه العميد محمد جواد دبوق بهذه الأبيات:
عابوا عليك طريق الحق تسلكه وكل من ضلَّ نهج الحق فهو عمي
وحاربوك لعدل ما حكمت به إلا لتنصف أهل الحق والذمم
ما زلت في عون مظلوم تناصره فالله عونك رغم الظالم الآثم
وأثناء وجود شيخنا في رئاسة المحكمة العليا استطاع أن ينظم شؤون القضاء الشرعي الجعفري، ويجعل الامتحان ضرورياً لاختيار القضاة. كما صنف شؤون القضاء وكتب في المجلات القضائية. ومؤلفاته في شؤون القضاء تُعدُّ مرجعاً محترماً للقضاة، المدنيين والشرعيين والمحامين ومن أهمها: الفصول الشرعية، وأصول الإثبات في الفقه الجعفري، والأحوال الشخصية في المذاهب الخمسة، وقد ألّف بعد إقالته من الرئاسة موسوعته الشهيرة: فقه الإمام جعفر الصادق(ع).
 

السابق
شعره جاب صحراء الحجاز وتعدّى حدود الهند محمد كامل شعيب
التالي
طفل صيني حاول تقليد “سوبرمان” فقضى