السفير: القصة الكاملة لمفاوضات «الساعات الحاسمة» في قصر بعبدا

إذا كان تشكيل الحكومة قد تطلب مخاضا عسيرا استمر لأشهر عدة، إلا انه يمكن القول ان اللقاء الثلاثي المطوّل الذي انعقد في قصر بعبدا بين الرؤساء ميشال سليمان ونبيه بري ونجيب ميقاتي، قبل ظهر الاثنين الماضي، يمثل الجزء الاصعب من هذا المخاض، والذي كاد ينتهي الى إجهاض الولادة، لو لم يسحب الرئيس نبيه بري من كمّه «أرنب» الحل السحري.
«السفير» حصلت على الوقائع الكاملة لهذا اللقاء المفصلي الذي شهد مدا وجزرا، وتقلبات مناخية، قبل ان يفضي الى توافق على تأليف حكومة، شكلت نموذجا إضافيا لقدرة اللبنانيين على ابتكار «التسويات المستحيلة».. فماذا في التفاصيل؟
خلد الرئيس نجيب ميقاتي الى النوم ليلة الاحد وقد صمم على التوجه الى قصر بعبدا في اليوم التالي، للاعلان عن تشكيل حكومة من 24 وزيرا، تكون مزيجا بين الواقعية.. والامر الواقع.
وبالفعل، وصل ميقاتي الى القصر صباح الاثنين، متأبطا تشكيلته الوزارية وبيانا سياسيا موجها الى اللبنانيين. كان الرجل قد اتخذ قراره بوجوب الاعلان عن الحكومة في ذلك النهار، مهما كلف الامر ومهما تأخر الوقت، لا سيما انه بدأ يشعر بأن كلفة الفراغ أصبحت أشد وطأة عليه من كلفة تشكيل الحكومة، مهما كانت سيئة.
وما زاد من إصرار الرئيس المكلف على حسم أمره هو تصاعد حدة الهجوم السياسي عليه من جهات عدة داخل مكونات الاكثرية الجديدة، وصولا الى تخوينه وتحميله مسؤولية التأخير في ولادة الحكومة، وهذا ما لم يعد قادرا على تحمله.
ومع وصول ميقاتي الى قصر بعبدا، كان الرئيس نبيه بري يهم بمغادرة منزله في مقر عين التينة متوجها الى مكتبه الكائن في المبنى ذاته، وقد ارتدى ثيابا «سبور»، لغياب المواعيد الرسمية. وما هي إلا لحظات، حتى أتى من أبلغه بان الرئيس المكلف يجتمع في هذه الاثناء مع الرئيس ميشال سليمان، لكن رئيس المجلس لم يتوقف كثيرا عند هذا الخبر، خصوصا ان ميقاتي إعتاد على زيارة رئيس الجمهورية من وقت الى آخر.
بعد قليل، تبدلت الصورة على إيقاع رنين جرس الهاتف في مكتب بري. كان على الخط الرئيس سليمان الذي خاطب رئيس المجلس بالقول: إذا سمحت دولة الرئيس، تفضل الى القصر.. أنا والرئيس ميقاتي ننتظرك.
– بري: هل من أمر طارئ، فخامة الرئيس؟
– سليمان: نتكلم عندما تأتي..
سارع بري الى ارتداء ثيابه الرسمية، فيما كان موكبه يستعد على عجل للانطلاق الى بعبدا. على الطريق، راح بري يعرض مروحة الاحتمالات التي قد يكون أحدها في انتظاره، مرجحا ان تُطرح عليه حكومة أمر واقع.
ومع بلوغ الموكب منطقة الحازمية، اضطرته الاشغال والحفريات القائمة في محيط مستديرة الصياد الى تخفيف سرعته بسبب زحمة السير، الامر الذي أتاح لرئيس المجلس المزيد من التأمل في الخيارات المتاحة أمامه، الى ان «لمعت» في رأسه فكرة التنازل عن أحد مقاعده الوزارية لصالح فيصل كرامي لإنقاذ الحكومة.
اقترب الموكب من مدخل القصر، فيما كان بري ما زال يقلّب «الفكرة المبتكرة»، لعلها تنطوي على محظور دستوري يجعلها غير قابلة للحياة، وعندما توصل الى قناعة بانها لا تشكو من أي ثغرة دستورية، وإنما تتجاوز فقط عرفا متوارثا، قرر ان يعرضها على الرئيسين سليمان وميقاتي.. متى وجد ذلك ضروريا.
ترجل بري من السيارة وهو ما زال يضرب أخماسا بأسداس، وتوجه مباشرة الى مكتب سليمان، حيث تعقد عادة اجتماعاتهما، لكن سرعان ما قيل له ان الرئيسين سليمان وميقاتي ينتظرانه في الصالون الكبير. دخل بري بهو الصالون، ليجد سليمان وميقاتي يجلسان جنبا الى جنب، وقد تركا له كرسيا شاغرا، فابتسم، قائلا لهما: حتى الصورة، أمر واقع؟
بعد المصافحة، بادر الرئيسان الى إبلاغ بري بانهما توافقا على تشكيلة حكومية من 24 وزيرا، «ونريدك ان تطلع عليها».
– بري مخاطبا ميقاتي: خليها معك.. دولة الرئيس. لا أريد ان أطلع عليها، نحن اتفقنا على حكومة ثلاثينية، اليس كذلك؟ وأضاف: أفهم أنكم أخرجتم وزراء الدولة من التشكيلة..
– ميقاتي: صحيح.
– بري: لكنك بذلك ستخسر الاكثرية وبالتالي حكومتك لن تنال الثقة، وهذا يعني اننا سنعود الى نقطة الصفر.
– ميقاتي: كيف ذلك؟
– بري: عدّ معي.. الوزير نقولا فتوش، ووزير الحزب السوري القومي الاجتماعي والوزير طلال ارسلان وكتلته، وحتى العماد عون الذي سيفقد وزيري دولة. كل هؤلاء لن يمنحوا الحكومة الثقة، علما بأن لا مشكلة لدي على المستوى الشخصي لان حصتي لا تضم وزير دولة، لكنك ستواجه مشكلة مع الاكثرية ككل.
– ميقاتي: أنا لم أعد أحتمل الوضع القائم، ولن أخرج من هنا إلا بحكومة. أنا لا أقبل بان يستمر البعض في مهاجمتي وتخويني، وصولا الى القول انني أتلقى إملاءات من الخارج، وأخضع لضغوط من الخارج..
– بري: كيف لو كنت مكاني.. أنا أتعرض منذ فترة لحملات عنيفة من قوى 14 آذار التي لا شغلة ولا عملة لها هذه الايام سوى نبيه بري.. هذا أمر طبيعي في لبنان ويجب ألا يؤثر عليك.
– سليمان: يجب حسم مسألة الحكومة اليوم..
– بري: حكومة من 24 وزيرا لا تمشي.. هل اتفقنا على مبدأ حكومة ثلاثينية؟
وبعد أخذ ورد، بدا ان موقف سليمان وميقاتي قد اصبح أكثر تقبلا لحكومة من 30 وزيرا، ما جعل النقاش ينتقل الى مرحلة أخرى.
– بري: هل اسم فيصل كرامي موجود في التشكيلة؟
– ميقاتي: كلا.. اسمه ليس مدرجا فيها.
– بري: لكنك كنت قد ابلغتني بان الكراميين (أحمد وفيصل) سيجري توزيرهما.
– ميقاتي: بالاذن منك دولة الرئيس.. روايتك غير كاملة، لقد سبق ان قلت لك ان هناك خيارين، فإما ان يُوزّر أحمد وفيصل كرامي معا.. وإما ان يسمي الرئيس عمر كرامي من يمثل المعارضة السنية، غير فيصل.
– بري: صحيح.. معك حق.
– ميقاتي: ما حصل انه لم تكن هناك إمكانية لتطبيق أي من هذين الخيارين.
– بري: لكن هناك التزاما مني ومن السيد نصر الله والعماد عون بتوزير فيصل كرامي.
– ميقاتي: في هذه الحال، لا بد من تمثيل طرابلس بأربعة وزراء، ما يعني ان تمثيل بيروت سيقتصر على وزير واحد، وهذا ما لا اقبله ولا أتحمله.
هنا، قرر رئيس مجلس النواب ان يفجر» قنبلته الوزارية» التي أعدّ صواعقها في السيارة، أثناء توجهه الى القصر الجمهوري.
– سأل بري الرئيس المكلف: هل لديك بدائل لحل عقدة الكراميين؟
– ميقاتي: لا..
– بري: البديل عندي.
– سليمان وميقاتي: ما هو؟
– بري: أنا لدي ثلاث حقائب، الخارجية، الصحة، والشباب والرياضة. أنا مستعد للتخلي عن إحداها لصالح فيصل كرامي.
فوجئ سليمان وميقاتي باقتراح بري، وبدت علامات الدهشة واضحة على محياهما. ساد الصمت لبرهة، على وقع المفاجأة غير المتوقعة، ثم انطلق النقاش مجددا.
– سليمان: لكن.. هل تستقيم هذه الفكرة دستوريا؟
– بري: لا يوجد أي نص دستوري يتعارض معها.. هناك عرف سائد منذ أيام الانتداب، وأنا أريد ان أكسره.
– سليمان وميقاتي: هل تتقبل الطائفة الشيعية هذا الاقتراح، وهل تحتمله أنت في طائفتك؟
– بري: لقد احتملت في السابق ما هو أصعب منه حين وافقت على الزواج المدني الاختياري. ثم أنا اريد اختبار زعامتي في الطائفة الشيعية، وأنا أتحمل شخصيا تبعات خوض هذا الاختبار.
– ميقاتي: الا تتعارض هذه الفكرة مع مبدأ الميثاقية؟
– بري: كلا.. عندما استقال الوزراء الشيعة من حكومة فؤاد السنيورة طلبت منه ان يعين وزيرا شيعيا واحدا على الاقل حتى يحفظ الميثاقية.. اليوم، سيكون في حكومتك خمسة وزراء شيعة. ثم، لقد حصل في الماضــي ان شُكلت حكومة رباعية بلا أي وزيــر شيعي، من أجل الغلــبة، وأنا اليوم اريد ان أتنازل عن وزير شيعي من أجل المصلحة اللبنانية العليا.
بعد مرور حوالى 45 دقيقة على الجدال حول هذه النقطة، توجه بري الى سليمان بالقول: فخامة الرئيس.. احتراما لمجلسك لا يجوز أن أغادر.. لكن اعذراني، أشعر بانني بدأت أكرر نفسي.
نظر سليمان الى ميقاتي، وقال له: أعتقد ان ما طرحه الرئيس بري هو المخرج الأخير. وهنا، طلب الرئيس المكلف من بري ان يطلع على التشكيلة معدلة، فأصر بري على الرفض، ثم همّ بالمغادرة قبل ان يستدرك مخاطبا ميقاتي: أود ان الفت انتباهك الى انني تنازلت لفيصل كرامي عن حقيبة وزارية، أي انه ليس وزير دولة.
وقبل ان يترك بري الاجتماع، أبلغه رئيس الجمهورية انه سيقفل كل خطوطه الهاتفية، الى حين صدور التشكيلة.
في طريق العودة، اتصل بري بمعاونه السياسي النائب علي حسن خليل وطلب منه ان يبلغ المعاون السياسي للامين العام لحزب الله الحاج حسين خليل بضرورة ان يلاقيه في عين التينة فورا لأمر ملح، وهكذا كان.
شرح بري للحاج خليل حيثيات الاقتراح الذي قدمه للرئيسين سليمان وميقاتي، وقال له: هذا الموقف آخذه بصدري وحدي، وحزب الله ليس ملزما به إذا لم يكن موافقا عليه. ولاحقا، وصلت رسالة الى بري من نصر الله تؤكد تأييده المخرج الذي طرحه.
في هذه الاثناء، كان الوزير غازي العريضي يتصل ببري، بطلب من النائب وليد جنبلاط، لاستيضاحه حقيقة ما يتردد حول نيته التنازل عن مقعد وزاري شيعي لصالح فيصل كرامي. فوجئ بري بتسرب الخبر، وسأل العريضي: من أين أتيت بهذا النبأ؟ فأجابه: وليد جنبلاط أخبرني.
ومع الاعلان عن التشكيلة الحكومية، سارع الرئيس بشار الاسد الى الاتصال برئيس الجمهورية، مثنيا على الصيغة التي أتاحت تحقيق الولادة. وبدا من كلام الاسد انه كان يعتقد بان حزب الله هو الذي يقف وراء حل اللحظة الاخيرة، فأبلغه سليمان ان بري من اقترحه.
وقرابة الرابعة بعد الظهر، اتصل الاسد ببري، مشيدا بخطوته التي ستترك انعكاسات ليس فقط على لبنان، وإنما على سوريا والمنطقة ككل.
وأكد بري للمتصلين به ان الحكومة هي صناعة لبنانية مئة بالمئة، موضحا ان الرئيس الاسد لم يكن على الاطلاق في جو ما فعله، وبالتالي فليس صحيحا ان توقيت التأليف هو توقيت سوري، لان دمشق كانت تستعجل تشكيل الحكومة منذ اشهر، رغبة منها في ان تكون هناك مرجعية في لبنان، يمكن التعاون معها لضبط الحدود ومنع تهريب السلاح والفوضى الى العمق السوري.

السابق
بساطة أدونيس ومرجعية “السيد الرئيس”
التالي
في زمن النفط والدم: الملوك يريدون تغيير الجمهوريات!