فوز شعبي.. وخسارة نيابيّة لأردوغان

فعلها حزب رجب طيب أردوغان ولم يفعلها في الوقت نفسه. فقد كسر، في انتخابات يوم أمس، رقماً لم يسبق له أن حقّقه في جميع الدورات الانتخابية السابقة منذ 2002، التشريعية منها والمناطقية أيضاً، بنيله نحو 51 في المئة من أصوات الناخبين الأتراك، لكنه نال عدداً قليلاً نسبياً من النواب، هو 326 من أصل 550، وهو رقم أقل بالتأكيد مما كان يأمل تحقيقه ليتمكن من إقرار دستور جديد للبلاد من دون الحاجة الى مساعدة الشعب أو أي حزب معارض (غالبية الثلثين تساوي 367 نائباً)

، وأقل حتى مما يمكّنه من طرح مشروع دستوره الجديد على استفتاء شعبي (330).

هكذا، حقّق حزب «العدالة والتنمية» الحاكم نتيجة قياسية من ناحية الدعم الشعبي، إذ صوّت له 21 مليون ناخب من أصل 41 مليوناً اقترعوا، لكنها نتيجة لم تُصرَف، على نحو كافٍ، ولأسباب تقنية، في عدد النواب الفائزين عن حزب أردوغان، وهو ما يضع أوّل عقبة أمامه في طريقه نحو حلم إقامة «تركيا الجديدة» التي تبدأ بإقرار دستور جديد مدني وديموقراطي للبلاد، لمحو مفاعيل الدستور المطبق حالياً المكتوب بأقلام وروحيّة العسكر.

هكذا، خاضت تركيا انتخابات أكثر من مشوّقة، بدليل أنّ المشاركة الانتخابية كسرت أرقاماً قياسية غير مشهودة ربما في أعرق الديموقراطيات، بما أنّ 83.2 في المئة من المدرجة أسماؤهم على لوائح الاقتراع صوّتوا بالفعل. ولعلّ الحظّ العاثر وقف أمام أردوغان لأنّه دفع ثمن معايير توزيع عدد النواب على المحافظات التركية الـ 81. فبسبب النزوح الدائم للأتراك من قراهم ومحافظاتهم الغارقة في وسط الأناضول خصوصاً، إلى المدن الكبيرة، إسطنبول وأنقرة وأزمير خصوصاً، فقدت محافظات عدة وزنها الديموغرافي، فبات لدى العديد منها نائبان فقط مثلاً، في مقابل عدد هائل من النواب في إسطنبول على سبيل المثال (85 نائباً). وما حصل أن الحزب الحاكم، الذي ظهرت الصدمة قوية على وجوه مناصريه بعد إعلان نتائج الفرز، قطف بشكل ساحق نواب العدد الأكبر من المحافظات ذات الوزن الديموغرافي الصغير. أما في المناطق الكبيرة سكانياً، فقد فرض المنطق النسبي لقانون الانتخاب نفسه، وحال دون تمكن حزب واحد من الفوز بكل المقاعد، فتوزع النوّاب على الأحزاب الأربعة التي دخلت البرلمان: العدالة والتنمية مع 326 نائباً (في مقابل 331 نائباً في 2007، رغم نيله فقط 46.8 في المئة في حينها)، وحزب الشعب الجمهوري 135 نائباً (26 في المئة) وحزب الحركة القومية التركية 53 نائباً (13 في المئة)، والأهم 35 نائباً لمرشحي الحزب الكردي «السلام والديموقراطية» المحسوب سياسياً على حزب العمال الكردستاني، وهو رقم كبير جداً، بما أنّ الحزب المذكور لم يرشح سوى 37 شخصاً (مستقلاً طبعاً).

إذاً، فاز حزب أردوغان شعبياً وسقط برلمانياً، وهو ما سيكون له تبعات سياسية كبيرة، أولاً على قضية الدستور الجديد الذي كان أردوغان يعد بإقراره بعد الانتخابات. اليوم، لا يمكن أردوغان حتى طرح مشروع دستوره الجديد على استفتاء شعبي بما أنه لا يملك 330 نائباً في البرلمان، بالتالي، إن أصرّ على الدستور الجديد، فعليه اللجوء إلى وسيلة لا غنى له عنها: البحث عن حليف حزبي. والخيارات ليست كثيرة بالنسبة الى حزب أردوغان: أمامه إما التقرب من حزب الشعب الجمهوري، كبير أحزاب المعارضة مع 135 نائباً (كانوا 112 في انتخابات 2007)، وهو أمر صعب جداً بما أنّ هذا الحزب هو النقيض بكل شيء لـ«العدالة والتنمية»، أيديولوجياً وسياسياً واقتصادياً. الخيار الثاني هو حزب الحركة القومية اليميني المتطرف، الذي نجا من قطوع عدم اجتياز عتبة العشرة في المئة، ودخل البرلمان مع 54 نائباً في مقابل 71 كانوا يمثلونه منذ انتخابات 2007. ورغم أن جزءاً كبيراً من القاعدة الجغرافية والديموغرافية والدينية والقومية مشترك بين حزبي «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية»، إلا أنه يصعب على هذا الحزب أن يقدّم أي تنازل لـ«العدالة والتنمية» في ما يتعلق بالدستور الجديد، على الأقل إن ظل زعيم الحزب دولت بهشلي على رأس الحزب.

يبقى أمام أردوغان البحث عن رضى الأكراد، وهنا أمّ المصائب بالنسبة إليه. فكثيرون يرون أنّ حزب «السلام والديموقراطية» الكردي، الذي سيؤلف كتلة برلمانية مؤلّفة من 35 نائباً (كانوا 20 في البرلمان المنتهية ولايته)، فاز بـ 15 نائباً إضافياً بنتيجة فشل حكومات أردوغان في تقديم حلول جدية ولو أوّلية للقضية الكردية. وبنتيجة ذلك، سيكون من الصعب جدّاً على أردوغان وحزبه الفوز برضى الأكراد، بما أنه سبق لهم أن اشترطوا الموافقة فقط على دستور متعدد القوميات واللغات ويقوم على إعطاء الأكراد حق الحكم الذاتي، أكان على نحو فدرالي أم بأي صيغة مشابهة، وهو ما يرفضه أردوغان بالمطلق، حتى وصل به الأمر إلى اعتبار أنه «لم يعد هناك شيء اسمه قضية كردية».

لكنّ أردوغان بدا، في خطابه المسائي من أمام مقر حزبه في أنقرة، أنه فهم الرسالة التي تخبّئها نتائج الانتخابات، وهي أن «الشعب يريد منّا وضع دستور جديد، لكن بالإجماع والتفاوض، وسنناقش الدستور الجديد مع أحزاب المعارضة». لذلك، وضع أردوغان الخطوات الأولى للانفتاح على جميع الأحزاب الأخرى، عندما طمأن إلى أن حزبه «لم يفز لكي يضرب، بل لكي يحبّ»، مشدداً على أنّ جميع القوميات التركية قد فازت في 12 حزيران. وتوقف في عدد من فقرات خطابه عند أن «إخواننا الأكراد انتصروا ديموقراطياً اليوم»، مشيراً إلى أن حزبه «سيعانق جميع المعارضين». وفي الشق المتعلّق بالمعنى الإقليمي لفوز «العدالة والتنمية»، شدد أردوغان على أنه «انتصرت بيروت ودياربكر والشام وغزة والقدس وجنين ورام الله وبغداد والبوسنة»، فيما رأى فيه بعض المعلقين إشارة واضحة لدور تركي إقليمي سيتعاظم وزنه مستقبلاً.

بالمحصّلة، سيكون البرلمان التركي الجديد مشوِّقاً للغاية؛ سيجمع 35 نائباً مؤيداً للحركة القومية الكردية، تقودهم النائبة التركية الأشهر ربما، ليلى زانا، التي تجرّأت ذات يوم على أداء القسم الدستوري أمام البرلمان التركي بلغتها الكردية، وهو ما أدى الى سجنها أعواماً. ونقيض ليلى زانا سيكون حاضراً، بحيث فاز عدد من المرشحين المتهمين بالانتماء إلى عصابات «إرغينيكون» الفاشية على لوائح «الشعب الجمهوري» و«الحركة القومية»، إلى جانب نواب ملتزمين دينياً، ونائب مسيحي. أكثر من ذلك، سيتواجه في البرلمان المقبل نائبان شقيقان، كل منهما في حزب، وهما ابنا مؤسس الحركة القومية التركية المتطرفة، أحمد أربسلان توركيش (عن حزب أردوغان) وإرتوغرول أربسلان توركيش (عن الحركة القومية).

جديد القوانين والحملات الانتخابيّة وقديمها

فُتحت مراكز الاقتراع في محافظات شرق البلاد عند الساعة السابعة صباحاً بتوقيت بيروت، وأُقفلت عند الرابعة من بعد الظهر، بينما صوّت المقترعون في المحافظات الغربيّة بين الساعتين الثامنة صباحاً والخامسة بعد الظهر. وكانت الساعة السادسة من بعد الظهر يوم السبت قد شهدت اختتام الحملات الانتخابية بالنسبة إلى مرشحي الأحزاب الـ 15 (7492 مرشحاً حزبياً) والمرشحين المستقلين الـ 203.

وارتأى رجب طيب أردوغان اختتام جولاته في المدينة الأهم، إسطنبول، المدينة هي الأكبر في البلاد التي سترسل العدد الأكبر من النواب إلى البرلمان (85 نائباً). ومن غير المستبعد أن تتجاوز نسبة التصويت الـ 80 في المئة، لسببين؛ أولاً نظراً إلى الأهمية الاستثنائية المصيرية التي تكتسبها هذه الدورة بالذات، وثانياً لأن الاقتراع واجب في تركيا لا مجرد حقّ، وبالتالي تُفرض جزية مالية على مَن لا يقترع.

وكان لافتاً الطريق الانتخابي الذي اتّبعه زعيم حزب «الشعب الجمهوري» كمال كليتش دار أوغلو، الذي بدأ أولى حملاته الانتخابية في منطقة سمسون على البحر الأسود في 24 نيسان الماضي، واختتمها أول من أمس في عقر دار حزبه في مدينة إزمير، وهو ما قصد منه اتّباع الطريق الذي سلكه مصطفى كمال (أتاتورك) في حرب الاستقلال الكبرى التي بدأها من سمسون نفسها في عشرينات القرن الماضي، واختتمها بالفوز الكبير في إزمير.

في المقابل، اختتم زعيم حزب «الحركة القومية التركية» دولت بهشلي حملته في مسقط رأسه عثمانيّة في جنوب الأناضول. وقد أحيا أردوغان 68 مهرجاناً انتخابياً في 68 محافظة منذ 22 نيسان حتى يوم السبت، كان أكبرها في إسطنبول يوم الأحد الماضي، حيث حضر ما يناهز المليون مناصر بحسب أرقام الحزب الحاكم. أمّا كمال كليتش دار أوغلو، فكان الأكثر نشاطيّة بما أنه أحيا مهرجانات في المحافظات الـ 81 (كل محافظات تركيا)، في مقابل اكتفاء دولت بهشلي بـ 57 مهرجاناً. تجدر الإشارة إلى أنّ القانون يسمح للناخبين بالتصويت إما ببطاقات هويّاتهم أو برخصة السوق أو بجواز السفر أو حتى بوثيقة الزواج. ومن جديد انتخابات 2011، خفض سنّ الترشح إلى سن 25 بعدما كان 30 عاما، إضافةً إلى اعتماد صناديق اقتراع شفافة، كما أنّه غُيّرت أرقام النواب الذين يُنتخَبون من كل محافظة على نحو متناسب مع تغيُّر عدد السكان فيها. من هنا، ارتفع عدد النواب الذين يمثلون 14 محافظة تركية، في مقابل انخفاض عدد نواب 28 محافظة أخرى.

السابق
النهار: الجيش السوري استعاد جسر الشغور “بالكامل
التالي
الانباء: الوضع الداخلي اللبناني “مكربج” ومفتوح على كل الاحتمالات