يمنى العيد: الضدّية لا تعني “أنوثة” ضدّ الرجل بل تعني “الشبه”

الدكتورة يمنى العيد قامةٌ نقديّة عالية التَّفرُّد بإخلاصها للنقد الأدبي العربي الحديث، الجادّ والرَّصين، إخلاص مناضلةٍ حقّة لعقيدتها المقدَّسة، فالعيد جهدت واجتهدت ونجحت، ومن موقعها بجعل نقدنا الأدبي والثقافي نقداً إبداعيّاً علميّاً، بنَّاءً ومتطوّراً، ليس فقط بانتشاله من عتمة قوقعة التّراثيّة الماضويّة، بل أيضاً وبالنّسبة نفسها – بالعمل على تحريره من التّبعيَّة النقديّة الغربية وتكريس ندِّيته لها (تكامليّته معها)، من خلال إطلاق نقاوته ودفعها بإحكام إلى فضاءات الرحابة الإنسانية الكونية الشاسعة والمضيئة.

تُعالج العيد "إشكالية العلاقة بين المتخيّل الروائي وبين ما تسمّيه اصطلاحاً، المرجع الحيّ". هكذا تقرأ الرواية العربية وتطرح عليها أسئلتها، تضيء مسارها التاريخي، الفني، تبرز ما تميّزت به في بُناها ودلالاتها. تستكشف المُضمر وما يشي بمستقبل هذه الرواية" وذلك في كتابها الجديد الصادر حديثاً عن "دار الفارابي" بعنوان: "الرواية العربية (المتخيّل وبنيته الفنيّة)" والذي دار حوله هذا الحوار:

· أنتِ صاحبة مشروع عربيّ تأصيليّ، أكاديمي ومنهجيّ رائد، للخطاب الأدبي العربي الإبداعي، الروائيّ منه خصوصاً، على صعيدي التنظير والممارسة النقدييّن، فهذا المشروع يجهدُ، ومنذ ولادته، لتحقيق طموحه المزدوج: فهو من جهة، يدأب" لتثبيت وتكريس خطابنا الأدبي بمقوّماته الفنية المستقلّة، من خلال ربطه المحكم – وعبر الإحالة النّصية الفنية – "بمرجعه الحي" (حوضه البشريّ الذي ينمو فيه ويحيا) أي واقعه المعيش – الاجتماعي – السياسي، التاريخي؛ ومن جهة أخرى، يدأب هذا المشروع أيضاً – وبالمستوى ذاته – للوصول إلى أن يكون "كل قارئٍ عربيّ ناقداً" للنصّ الأدبي الإبداعي الذي يقرأه، فمتى وكيف ولماذا وُلد هذا المشروع، وماذا حقّق، حتى الآن، من أهدافه الذي وُلد من أجلها؟ وماذا عن أُفُقه الحالي، وما هي سِماتُ هذا الأُفق؟

حقيقةً، لم أكن في البداية صاحبة مشروع، أو قل بأني لم أفكر بمشروعٍ ما. كان لديَّ مجرد سؤال يدور حول علاقة الأدب بالواقع الاجتماعي. وهذا السؤال لم يكن يضمر خصوصية للأدب، أو لم يكن يرتكز إلى موضوعة الخصوصية، فأنا شخصياً، حذرة، من هذا المصطلح، مصطلح الخصوصية، أخشى أن يُفضي إلى إغلاق الأدب على ذاته. لذا أميل إلى استعمال مصطلح التميّز، تميّز الأدب على مستواه الخاص، النوعي.

وبالعودة إلى سؤالي حول علاقة الأدب بالواقع الاجتماعي فهو يصدر عن عدم قناعتي بالمفهوم الشائع في ستينات القرن العشرين والقائل بأن الأدب هو "انعكاس" للواقع، وبسعيي للبحث عن بديل أو عن مفهوم آخر لهذه العلاقة. فقد كنت أرى في مفهوم "الانعكاس" تبسيطاً لعلاقة الأدب بالواقع الاجتماعي، أو قل ربطاً آلياً لا يأخذ بعين الاعتبار استقلالية الأدب، ويُهمل، في الآن نفسه، علاقة الأدب بالأدب، أو كون الأدب، وكما يقال، يُكتب من الأدب.

كان لديّ سؤال، ولم يكن لديّ مشروع. سؤال يبحث عن علاقةٍ ما بين الأدبي والاجتماعي، وأدرك، بشكل من الأشكال، أنها علاقة معقدة، وغير مباشرة. ذلك أن الأدب نصّ مفارق لمرجعيّاته المعيش منها والمقروء، الخاص والعام، المحلي والوافد.

ولعلّ هذا الإدراك هو الذي دفعني، ومنذ بداياتي، إلى الكلام على "الدلالة" الاجتماعية "الحركة" الأدب الرومنطيقي في لبنان. أي أني ملْتُ للبحث عن دلالة "تحيل" على ماله علاقة بالاجتماعي، المحلي. وقد نظرتُ إلى هذه الدلالة في حركيّتها، أي في تحولاتها واختلافاتها في تاريخيّتها. أي بما هي، هذه الدلالة، تحوّلٌ في التحوّل. تحوُّل الأدبي في تحوّل عام يطال مختلف مستويات المجتمع. إن مفهوم "الإحالة" الذي تشير إليه في سؤالك، والذي ساعدني كثيراً في فهم العلاقة بين الأدبي والمرجعي، يشترط شبكة من العلاقات تنهض، باختصار، بين الذاكرة ومرجعيّاتها من جهة، وبين المكتوب والمقروء من جهة ثانية.

رواية حكايتنا

· كتابك الجديد "الرواية العربية (المُتَخَيَّل وبنيته الفنيَّة) يُظهر، من ألفه إلى يائه – تلميحاً وتصريحاً – بأنّ الرواية العربيّة الجديدة (أي لما بعد حديثه) قد حقّقت خصوصيّتها الكاملة، بعودتها الواضحة، والمطلوبة منها أصلاً، إلى رحِم أمومة وأحضان أبوّة مُتَخيّلِها الفني في بُنيته الإبداعيّة، عودةً أضحت بمثابة "تحصيل حاصل"، ما يعني بالضرورة، وكما يوضح هذا الكتاب، أن على النقد العربي أن تنحصر مهمّته أو بحثه في إطار "الما بعد" أي مستقبل هذه الخصوصية – هذا الذي تريَنْه مضيئاً لأسباب عدّة – لا أكثر ولا أقل، فهي التي حقّقت حضورها العالمي بجدارة لافتة، وعلى ما يُظهر هذا الكتاب أيضاً؛ أمِن أجل ذلك، يبدو مضمون هذا الكتاب – جملة وتفصيلاً – وبالقوّة نفسها التي ينظِّر فيها للبُنية الفنية للمتُخَيَّل الروائي العربي – دفاعاً "مستميتاً" عن خصوصيّة الرواية العربية الحالية هي التي نجحت بتخطّي مرحلة بداياتها التأسيسية الحديثة؟

لنوضح بدايةً بأن الرواية هي عالم متخيّل يصدر عن الذاكرة، عن مخزونها ليذهب أبعد منها وباتجاه المحتمل، والمأمول، باتجاه الحلم، وربما اللاواقعي: السحري، الأسطوري…

وفي مطلق الأحوال تحكي الرواية حكاية. هذه الحكاية هي، غالباً، حكاية الذات، أي هي حكاية تاريخ (زمن) له خصوصيّته، وبدافع من هذه الخصوصية يشتغل السرد الروائي على تكوين عالم فني، يُعبّر، بفنيّته، عن هذه الخصوصية. الخصوصية لها، وبحكم الفنيّة، فنيّة السرد الروائي، طابع العام، الإنساني. أضف أن الخصوصية ترتبط بشكل أساسي، بالحكاية التي تحكيها الرواية، وليس بفنيّة السرد، دون أن يعني ذلك عدم وجود علاقة بين الحكاية الخاصة وكيفية سردها فنياً. أو بين "ماذا" أقول "وكيف" أقول. ولقد اشتغلتُ، أو بحثتُ، في هذه العلاقة بين الحكاية (التي هي حكايتنا) وبين روايتها، أي كيفية سردها سرداً فنيّاً روائياً:

لن أتوسع في هذه النقطة المعقدة، أكتفي بالإشارة إلى أن بحثي في هذه العلاقة تناول مسألتين: الأولى تقول بأن الرواية العربية فن حديث في أدبنا. والثانية تقول بأن الرواية العربية لا تحاكي الرواية الغربية أو تقلّدها، كما يعتقد عدد من الباحثين العرب. وفي هذا السياق أعرض لمسألة الخصوصية، خصوصية الحكاية، حكايتنا، حكاية واقعنا العربي، دون أن أغلق الرواية العربية على هذه الخصوصية، فأنا من الذين يقولون بأن الأدب هو بالضرورة إنساني عام، شأنه في ذلك شأن الفنون عامة.

الخطاب الأدبي القرين

· جاء في الفصل الرابع من هذا الكتاب ومن خلال معالجته "إشكالية (الأدب النسائي) في العالم العربي منهجيّاً"، مصطلحٌ لافت، في وصفك للخطاب الإبداعي الذي تُنتجه المرأة العربية، اليوم، بأنه "خطاب قرينٌ"، (توضحين بأنه مستقًى من موسوعة "لسان العرب")، أي هو خطاب مساواتيّ – تكامليّ، للخطاب الذكوري العربيّ السائد، وليس إلغائياً لهذا الأخير، بل هو نِدِّيٌّ له بصفته التحرّرية، أو بمضمونه التحرّري على الصعيد الإنساني ككلّ، أيمكن أن تتفضَّلين بشرح مفهوم هذا المصطلح، ولو باختصار، إلى القارئ؟

يذهب عدد من النقاد العرب إلى اعتبار خطاب المرأة الأدبي خطاباً ضدّياً. بمعنى أنه خطاب أنثوي وهو بذلك ضد خطاب الرجل الذكوري. ولما كنت لا أوافق على هذا الرأي، رحتُ أبحث عن معنى الضدّيّة في "لسان العرب"، فوجدت أن الضدّية لها معنى النديّة وليس معنى التناقض، أو التناحر، كما قصد الذين وصفوا خطاب المرأة بهذه الصفة. فقد جاء في لسان العرب واستناداً، إلى ابن سيدة في إحالته على ثعلب: "ضد الشيء خلافه، وضدّه أيضاً مثله". واستناداً إلى الأخفش جاء: "الندّ: الضدّ والشَّبه"، واستناداً إلى ابن الأعرابي جاء:

"ندّ الشيء مثله وضدّه خلافه"، ويُقال: "لقي القومُ أضدادهم وأندادهم أي أقرانهم". هكذا، واستناداً إلى مفهوم الضدّية هذا والذي قال به أكثر من لغوي عربي، وبالأخذ، طبعاً بوجهة نظري ومعرفتي الدراسية بخطاب المرأة العربية، اعتبرت خطاب المرأة الأدبي خطاباً قريناً، أي يعادل خطاب الرجل الأدبي "قيمة" وإن اختلف عنه.

فالمرأة، بهذا الخطاب الأدبي المعتبر مضاداً تعلن عن وجودها كما أعلن خطاب الرجل الأدبي عن وجوده. أو كأنّ المرأة بهذا الخطاب المضاد توسّع لذاتها مساحة حضور في الكتاب والحياة.

القرين هو الندّ، أو المعادل، أو المُماثل… ولكن ليس المتماهي أو المقلِّد. إنه الندّ على قاعدة الاختلاف النوعي. من هذا المنطلق فإن لخطاب المرأة "الضدي"، أو يمكن أن يكون له، صفة الدفاع عن الـ أنا الأنثويّة بما هي ذات لها هويّتها المجتمعيّة والإنسانية، وبالتالي له صفة المواجهة لخطاب آخر شرَّع، ويشرِّع، قمعها وحرمانها، وتأييد امتلاك الآخر السلطوي لها، وسيطرته عليها.

الضدّية قائمة على حدّ القمع، والحرمان، والتسلّط.. وليس على حدِّ الذكورة والأنوثة كتمايزٍ في البنية الفيزيولوجية. يرفض خطاب المرأة المضادّ، أن يترتّب على هذا التمايز الفيزيولوجي معيار قيمة يضعها موضع الدونيّة في علاقتها مع الرجل والعالم الذي تعيش فيه، أو يضع خطابها الأدبي موضع الدونية باعتبار أنوثتها.

الخطاب الممنوع

· تخْتمين الفصل السادس بالتساؤل التوضيحيّ التالي: "هل يمكن أن نقوِّم الأدب بغير معياره الذي هو إبداعُ الحقائق؟"؛ وبدورنا نسأل، بما أن جوهر النقد الأدبي – وبما هو "قولٌ على القول" – قائمٌ على اشتغاله على النص الإبداعي بصفته موضوعه الأوحد، فهل النص النقدي هو بدوره، مُبدع للحقائق، أم أن مهمّته محصورة فقط بدوره التقيّيميّ (التّعديليّ أو التَّصحيحيّ أو التوجيهيّ) للنصّ الإبداعي على المستوى المعياري؟

الحقائق في هذا التساؤل، تساؤلي، هي حقائق مولَّدة "فنيّاً" بغض النظر عن كونها كذلك في الواقع أم لا. إنها مرهونة بعملية الإبداع. الإبداع الذي يجعلنا، نحن القراء، نشعر بأن ما يقوله العمل الروائي، أو ما تحكيه الرواية صادق وحقيقي. ذلك أن الأدب، شأن كل الفنون، "مُفارِق". أي أنه لا "يطابق" الواقع، أو قل أنه لا ينقل الوقائع، حتى لو أراد الكاتب، الروائي، أن يحكي حكايةً واقعيّة فإنه يحكيها بشكل مختلف عن كاتب آخر، فالحكاية تُروى من الذاكرة، ومن منظور الراوي الذي يرويها. وهي في كل مرة مختلفة حتى من قِبل الكاتب نفسه. لا تُروى الحكاية نفسها مرتين.

الرواية ليست تأريخاً، بل إبداع منسوب إلى المتخيّل. هل معنى ذلك أن الرواية لا تقول الحقيقة، أو الحقائق. لا. وربما كان الأدب الروائي هو الخطاب الأكثر جرأةً وقدرةً على قول الحقائق من حيث هي حقائق تخص الإنسان في معاناته من الظلم والقهر، والقمع والحرمان. تقول الرواية ما لا يقال. أي اللامرئي، الممنوع، وربما المحرَّم.. لذا لا بد من قراءة هذا التساؤل الذي تشير إليه في سؤالك والذي جاء في ختام الفصل السادس من كتابي، في سياق الفصل نفسه، وبشكل خاص في سياق دراستي للسيرة الذاتية الروائيّة.

فالتساؤل هذا جاء في موضع التقييم للسيرة الذاتية التي كتبتها حنان الشيخ، وذلك لما تميّز به سردُها من جرأة على كشف حقائق تخصّ الظلم الذي لحق بأمها، أو يرفع عن هذه الأم ظلماً لحق بها بسبب سلوكاتها المخالفة لمعايير قيميّة سائدة. لقد استطاعت الكاتبة في هذه الرواية (السِّيرة) أن تغيّر هذه المعايير، أو أن تعدِّلها. وكأنّها بذلك، تبدع حقائق تواجه، بشكل غير مباشر، المعيار الأخلاقي السائد في الوعي الجمعي. حقائق تخص الأم في سلوكاتها وطبيعتها، وأحلامها.. كما تخص العلاقة بين من يعيش في نعيم الطمأنينة ويُحاكِم من يهرب من العنف، أو العلاقة بين وعي مثقف ويحاسِب أمّياً غير معني بالثقافة وأهلها، أو العلاقة بين أصحاب البطون الملأى ويحاكِمون الجياع…

الحقائق المبدَعة، هنا، تحيل على العدالة الإنسانية، وعلى هذا الأساس يُمكن أن يقيَّم الأدب بصفته أدباً، أي إبداعاً.

السابق
البيرق: لقاء ميقاتي والخليلين :استمرار في التشاور وحلحلة ولكن لا تاليف بعد
التالي
ريفي في السعودية