قرار اتهام للبنان وسورية معاً؟

يعاني لبنان أزمات كثيرة لعل أبرزها، ظاهراً، عجز أركان الفئة الحاكمة عن تأليف حكومة جديدة رغم مرور نحو خمسة أشهر على سقوط حكومة سعد الحريري. لكن دلائل عدة تشير الى احتمال بروز أزمة اخرى من شأنها تظليل أزمة الحكومة المستعصية وربما دَفْعُ البلد الى ما هو أشد وأدهى.

الأزمة البازغة عنوانها قرار الاتهام المنتظر صدوره عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. ذلك ان صحيفة «النهار» القريبة من قوى «14 آذار» نسبت الى مسؤول رفيع في الامم المتحدة، ان الامانة العامة للمنظمة الدولية وزعت ما سمّته «توجيهات استعداد» لإمكان ان يُعلن قاضي الإجراءات التمهيدية في المحكمة الدولية دانيال فرانسين القرار الاتهامي الاول في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري على الارجح مطلعَ تموز المقبل.
المسؤول الاممي توقع ان يتضمن القرار الاتهامي أسماء أفراد «من رتب متدنية في حزب الله، بالاضافة الى آخرين»، مؤكداً ان المدعي العام لدى المحكمة دانيال بلمار «اضاف اسماء جديدة الى القرار الاتهامي الاصلي»، رافضاً الإفصاح عما اذا كانت الاسماء الجديدة تشمل افراداً سوريين. غير انه اشار الى ان ثمة «تساؤلات» عن الاثر الذي سيخلّفـه اعلان القرار الاتهامي، مؤكداً ان الامانة العامة للامم المتحدة «تتحسب لاعلان كهذا وقد اصدرت توجيهات استعداد اذا قررت المحكمة اعلان القرار ومباشـرة المحاكمات».

صحيح ان الناطق بإسم المنظمة الدولية علّق على المعلومات آنفة الذكر بقوله إن: «الامانة العامة للامم المتحدة ليس لديها معلومات محددة تتعلق بجوهر القرارات الاتهامية او مواعيدها»، لكنه لم ينفِ واقعة صدور «توجيهات استعداد» عنها. غني عن البيان ان هذه التوجيهات ما كانت لتصدر لولا معرفة الامانة العامة بأن قراراً اتهامياً سيصدر عن المحكمة الدولية قريباً.

في بيروت، لم تستغرب اوساط حزب الله وحلفائه المعلومات المتداولة ولم تستبعدها بل اعادت التذكير بمؤشرات سابقة تُعزز المنحى العام لهذه المعلومات. فالمدعي العام بلمار أقدم مرتين على ادخال تعديلات على قراره الاتهامي المُحال الى القاضي فرانسين. وتشير المعلومات المتوافرة لدى اوساط عدة في لبنان الى ان «تعديلات» المرة الثانية تضمّنت، الى اتهام كوادر من حزب الله، اسماء ضباط سوريين.

الى ذلك، ينظر اللواء جميل السيد، كما قياديون في حزب الله، بعين الريبة الى موقف بلمار من ملف شهود الزور، وتصرفاته الفاضحة في هذا السبيل. فاللواء السيد استحصل من القاضي فرانسين على قرار ألزم بلمار بتسليمه 270 مستنداً متعلقاً بشهود الزور بغية ملاحقتهم امام القضاء اللبناني المختص. لكن بلمار أقدم، عشية الاستحقاق الثاني الذي حدده فرانسين له لتسليم اللواء السيد مستندات اضافية، على تقديم طلب ثانٍ لوقف تنفيذ هذا القرار بدعوى ضرورة التدقيق في 70 شهادة من مجموع الشهادات الـ 270 لم يتسنَ له الاطلاع عليها لغاية الآن، مع انها موجودة في حوزته منذ سنوات عدة.

اكثر من ذلك، يزعم بلمار ان ثمة 12 مستنداً لم تترجم بعد ما يشكّل بحد ذاته فضيحة مدوّية، اذ كيف يجيز المدعي العام لنفسه ان يُقدّم الى قاضي الاجراءات التمهيدية قراراً اتهامياً على ثلاث مراحـل، مُدخلاً عليه تعديلات مرتين، قبل ان يكون قد اطلع على كامل الملف بجميع مستنداته واوراقه ؟

تصرفات بلمار المريبة تحتمل ثلاثة تفسيرات :
أولها، ان يكون الرجل خاضعاً لمؤثرات خارجية تملي عليه إتباع نهج في ادارة قضية الحريري يتماشى مع اجندة دول كبرى كالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.
ثانيها، تعمدّه إطالة اجراءات المحاكمة على نحوٍ يؤدي الى هدر الوقت وتأمين مرور الزمن لتعطيل المفعول القانوني لشهادات شهود الزور وبالتالي تعطيل ملاحقتهم قضائياً.

ثالثها، الاستفادة من سقوط المفعول القانوني لشهادات شهود الزور بغية تمييع ملاحقة المسؤولين، سياسيين وقضاة، المتسببين باعتقال الضباط الاربعة، وفي مقدمهم اللواء السيد، نحو أربع سنوات قبل الإفراج عنهم لثبوت براءتهم.
كل هذه المعلومات والتصرفات والتداعيات حملت اوساط قوى 8 آذار وحلفاء سورية، كما مراقبين مستقلين، على الإعتقاد بأن ثمة مخططاً جاهزاً لدى القوى المعادية لحزب الله وحلفائه، ولسورية ايضا، لإشعال فتنة اهلية بين أطراف الوضع المأزوم بعد ان يصدر القرار الاتهامي المرتقب عن المحكمة الدولية، بالتزامن مع التظاهرات التي تعصف بسورية. كل ذلك من اجل تحقيق اغراضٍ خبيثة للدول الكبرى، لاسيما للولايات المتحدة، قبل نهاية ايلول المقبل تتعلق بثلاث قضايا اقليمية كبرى :
إنعكاس مشروع الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة على «حدود» 1967 في الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال دورة ايلول المقبل، حول الصراع الفلسطيني- الصهيوني.

مستقبل الوجود والنفوذ الأميركيين في العراق نتيجةَ التمديد او عدم التمديد للاتفاق الامني بين اميركا والعراق الذي يُلزم واشنطن بسحب قواتها نهائياً قبل نهاية العام الحالي.

مفاعيل صدور القرار الاتهامي المرتقب ضد كوادر من حزب الله وضباط سوريين على الوضع في لبنان، ومدى قدرة دول الغرب الاطلسي وحلفائها المحليين على توظيفه لإضعاف سورية وحزب الله، اي لإضعاف سورية ولبنان معاً في صراعهما وسائر قوى الممانعة والمقاومة العربية ضد «اسرائيل».

صيف المنطقة سيكون، اذاً، مأزوماً وساخناً، فما العمل ؟
القوى الوطنية تتحسب للتحديات البازغة وتستعد لها. ردة فعلها الغريزية الاولى تجلّت برصِّ الصفوف والتهيؤ للمواجهة الشاملة. اولى خطواتها في هذا السبيل تكثيفُ الجهود الرامية الى تسهيل مهمة الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي في تأليف حكومة وطنية جامعة. لكن نجاحه في تشكيل الحكومة لا يجعلها بمأمن من تداعيات القـرار الاتهامي المرتقب، اذ ماذا سيكون موقفه في حال تضمّن اتهاماً وبالتالي ملاحقةً لكوادر من حزب الله ولضباط سوريين ؟
من هنا تنبع الحاجة الماسة الى الاتفاق سلفاً على الموقف والنهج المراد اتخاذهما حيال جميع التحديات والقضايا الخلافية وترجمة ذلك في بيان وزاري تتقدم به الحكومة من مجلس النواب لنيل الثقة على اساسه. لكن، هل يمكن التوافق على هذا البيان اذا لم تتوافق مختلف القوى الوطنية، بادئ الامر، على تشخيص مشترك لتحديات المرحلة الراهنة، وعلى تحديد المعالجات والإصلاحات والآليات اللازمة لمواجهتها في اطار جبهة اتحاد وطني واسعة وفاعلة ؟
الى ذلك، ينهض سؤال حول طريقة التعاون مع القوى الوطنية والقومية في سورية لمواجهة المخططات الاطلسية والصهيونية. ذلك ان أمن لبنان وأمن سورية متلازمان من جهة والقطران مستهدفان من اعداء مشتركين من جهة اخرى. غير ان لطريقة التعاون في المواجهة المشتركة متطلبات سياسية محلية، خصوصاً في لبنان، قد تستوجب حواراً وتوافقاً داخل القوى الوطنية نفسها قبل إقامة صيغة التعاون القومي المتوخاة مع سورية.

يبقى ان أهم مستلزمات التصدي للاعداء المشتركين هو الارتفاع الى مستوى المخاطر المصيرية التي تواجه لبنان وسورية في المرحلة الراهنة. ولعل المدخل الرئيس الى وعي هذه المخاطر ومواجهتها هو في تقديم الصراع مع اعداء الخارج، وفي مقدمهم «اسرائيل»، على الصراع مع قوى الداخل المنشغلة، غالباً، بتنافسات شخصية على مصالح سياسية ومادية ضيقة.
الكرة في ملعب الوطنيين جميعاً.

السابق
النهار: نتنياهو يلوم دمشق وواشنطن ترفض الاستفزاز
التالي
اللواء: الحكومة بين التشاؤم والتفاؤل … وأزمة الثقة تستولد العقد!