حياة الضاحية حين لا تختلف عن نظيراتها إلا في الأذهان

 كان ذلك في نهار مشمس. صدِّق أن الشمس تشرق على جميع المناطق في لبنان، وأن ثمة حياة في مناطق أخرى، وأن الفجر ينسكب في الكؤوس نفسها هنا وهناك. حياة للضاحية الجنوبية، وفي الضاحية، لا تختلف عن حياة نظيراتها إلا في الأذهان. أذهان اللبنانيين التي تتعالى فيها متاريس نفسية نسيت الحرب الأهلية أن تستردّها منها.
في حارة حريك، يتثاءب النهار ليدفع عنه ترسّبات النعس. يفتح ذراعيه للعمل، العمل الجائع دوماً. ناس هنا. ناس هناك. فهل ناس الهنا يختلفون عن ناس الهناك؟ الدمعة هناك دمعات هنا. والابتسامة هنا ابتسامات هناك. الصمت المدويّ هناك صمت صامت هنا. دكاكين مرميّة على تعب. محال تجارية بأسماء من أشكال وألوان، تسرف في الانوجاد.
شعارات حزبية ترتفع. ليس ثمة بدّ من القول إنها تشير إلى "حزب الله". ففي أذهان كثيرة المعادلة مرسومة بإتقان: الضاحية = الشيعة، والشيعة = حزب الله. لكن هؤلاء يستدركون أن هذا ليس تعميماً. فهناك شيعة ليسوا مناصرين لـ"حزب الله". هؤلاء يجيدون لعبة الفرز والتصنيف الطائفيين والحزبيين.
إلى أن… ذلك الرجل الخمسيني بلباسه الموحّد "البيج"، كأنه ينظّم السير. من أفضل منه للاستدلال على الطريق؟ لم يلبث أن تبنّى المأزق مأزقاً له، وأفضى بنصيحته: "قفي هناك ريثما تمرّ سيارة أجرة. الأفضل أن تضاعفي المبلغ للسائق لأن مشوارك بعيد نوعاً ما". ولم يكد يختم جملته حتى لمحنا سيارة أجرة تتوقّف. عند ذاك، عند ذاك فقط، أعاره الفرح بعض فرح. نادى السائق الذي يبدو أنه على معرفة به، وسأله إن كان يستطيع أن يأخذني معه. لكن السائق لم يملك إلا أن قال: "أوف" حين سمع العنوان، قبل أن يذعن في النهاية قائلاً: "اصعدي". أنا واثقة أن رجل "البيج" لم يسمع شيئاً من كلمات شكري التي سقتها له لمساعدته إياي. لا لسبب إلا لأنه منذ "اصعدي" السائق، انتقل إلى ضفّة أخرى من الوجود. ابتسامته ما عادت تسعها الابتسامة. أسنانه انتظمت، وانسجمت في ما بينها، لتصفّق لسعادة تلك الابتسامة. ذقنه الرمادية عُلّقت على جدران الفرح. ارتياحي غدا ارتياحه هو. لا أعرفه. لا يعرفني. ساعدني. ثم ذهبت لا أعرفه، لا يعرفني. تركته واقفاً على ذاك الرصيف تحت الجسر، يلوّح بيد للسيارات. وفي اليد الأخرى، ارتفع منسوب الفرح حتى ضاقت به الذراع.
لكن أمراً آخر كان يحدث في سيارة الأجرة. عجوز تحاول الترجّل ولا تستطيع. فـ"استحقّت" الزمامير المتصاعدة جوقة. ثم رجل "البيج"، رجلان. فأطلّ شبيه به باللباس، ثلاثيني، وزجر مع زميله الخمسيني، السائق على عرقلته السير. لكن حين بان لهما السبب، تفهّما الأمر، وخفّفا من ثورة السائقين.
"عجبك؟ كان قتلنا حزب الله!"، قال السائق، الحاج، تعليقاً على عرقلة السير التي حدثت. لكن ماذا يقصد؟ المعنى القريب أي المباشر، المتعلّق بالحادثة، وأن رجلي "البيج" هما من "حزب الله"؟ أم تراه يطاول في جملته، المعنى البعيد السياسي ويغمز من قناة الحزب وأدائه؟ الظنّ، أغلب الظنّ، أن الحاج غير متعاطف مع "حزب الله" لسببين فضحهما كلامه. الأول أنه عيّن الشخصين بما يمثّلانه، أي الحزب، ولم يشر إليهما في حدّ ذاتيهما. والسبب الثاني أنه لم يعلّق إلا عليهما، وتغاضى عن السائقين الذين أطلقوا زمامير سياراتهم خلفه. يبدو أن الحاج يبطّن كلماته ويغلّفها جيداً بنيّاته.
ثم سألني: "شو بيقربك…؟"، ذاكراً اسم عائلة رجل "البيج". "لا شيء. كنت أستدلّ منه على الطريق فحسب"، قلت. وسألته: "ولكن ما هي وظيفته على وجه التحديد؟". فأجاب الحاج: "حزب الله". أجاب عن سؤال الوظيفة بجواب الحزب، قبل أن يكمل: "هؤلاء مسؤولون عن أمن حزب الله وحمايته. فلا شرطي سير في هذه المنطقة. هم يتولّون هذه المهمّة".
فعلاً أن كلام الحاج نيّاته متوارية في ثناياه. فأسئلته تعزف على أوتار الفرز والتصنيف الطائفيين لترسو على برّ الطمأنينة النفسية والطائفية. والأسئلة على مراحل: "أنت من الحارة أم من المنطقة حيث تبغين الوصول؟". لكن الحاج لم يقطع خيط علاقة ما مع الحارة: "إذاً أنت تعملين هنا؟". ولأن الإقامة في منطقة ما لا تعني بالضرورة الانتماء إلى دينها الغالب، سأل فضول الحاج الطائفي عن اسم العائلة مرفقاً بـ"من وين الأصل؟" علّه يصل إلى يقين. ثم جاء دوري في السؤال: "وأنت من وين؟"، بغية إحلال توازن ما في الحوار.
عاد الحاج أدراجه إلى هناك، حيث رجل "البيج"- يحبّه أو لا يحبّه- الذي لا تزال ابتسامته سماء بلا حدود. ويده تترقّب السيارات، تراقبها، تقرّبها، تبعّدها. ترجّلت من السيارة وشيء واحد في البال: حبّذا لو تصبح الطائفية مثل الأبواب الزجاجية في باحات الفنادق الخارجية التي تدور على نفسها وعلينا، ندخل فيها لنخرج منها…
 

السابق
نديم الجميّل : حزب الله لا يريد تأليف الحكومة
التالي
أحمد بيضون مكرَّماً في الأنطونية