مشاهدات من أمام المزبلة

بقيت أحدجه بنظرتي القاسية حتّى توقّف تماماً عن الكلام، وأخذ ينظر إلى أرض المزبلة، فيما رفاقه ينقلون أبصارهم بيني وبينه في ريبةٍ، وقد شعروا بأنّ هناك شيئاً ما، بعدما ضبطته في تلك المرة وهو يخبّئ الأرغيلة، أصبح كالخاتم في إصبعي، لذلك كنت في كلّ مرّةٍ ألقاه أتلذّذ بتعذيبه، فأرسله إلى داخل المخيّم ليحضر لي بعض الأشياء.

أحياناً، . كان يتمرّد علي، ويطالب بعمولة نظير خدماته، لكنّي على الفور، أسحق تمرده بتهديدي بالبوح لأمه، فيخاف ويعود ذليلاً صاغراً، لا يلوي على شيء. أخذت أفكّر في شيء أطلبه منه ما دام هو أمامي وقد أوقعه حظّه العاثر بي. تذكّرت أنّي مدعوّ إلى العشاء مع رولى في ذلك المطعم البحري الجميل في جبيل، ولا بدّ من أن أكون في أفضل صورة،

– هيه! أنت أيها الصّبي، تعال، نظر إليّ المسكين في خوف، مشيراً إلى صدره بإصبعه.

– أنا؟

– نعم، أنت أيها المغفل، تعال. أخذ يتقدم نحوي ببطء، حتّى وقف أمامي. سحبت من جيبي ألفي ليرة، وأمرته بلهجة عسكرية صارمة أن يحضر لي شفرات حلاقة من دكان الشعبوني. نظر إليّ نظرةً مترددةً، وقال وهو يأخذ الألفي ليرة: لكن يا عمو، الشفرات حقها تلات آلاف.

هنا صعد الدّم إلى رأسي، وقلت له صارخاً: إنّها ألفين أيها الحقير، ولو بقيت ثانيةً أخرى، سأجعلها ألفاً، وستدفع الألف الأخرى من جيبك. هل تريدني أن…؟

وهنا غمزته غمزةً ذات مغزى فهم معناها على الفور، وتذكّر قصة الأرغيلة إياها، فدار على عقبيه وأسرع راكضاً لينفّذ ما أمرت به.

ههيهيههيهيههيهيهي يا سلام! ما أجمل أن يكون الإنسان مستبداً!.في السابق، كان الحقير يفاوض كثيراً على عمولته الّتي يضع لها حداً أدنى دائماً ما يتجه صعوداً، غير مكترثٍ طبعاً إلى حدي الأدنى الذي لم يرتفع ليرة واحدة منذ دهر!!! لكنّه وبعد تلك الحادثة، تحوّلت العلاقة بيني وبينه من علاقة تبادل مصالح إلى علاقة عسكاريتارية من طرف واحد أمسك بأطرافها بقبضة من حديد!!

عدت إلى البيت وبدأت أهيّئ عدة الحلاقة. مممممممم، .ينقصني بعض المعجون، نسيت أن أطلب منه إحضاره! ممممممممم على كل حال يمكن الاستعانة ببعض الشامبو إلى حين إشعار آخر، ما علينا، ، بينما كنت أستعدّ لأسحب المرآة من على رفّ الكتب، سقطت صورة قديمة لـ"ر" على الأرض، واشتعل فتيل الذّكريات، وعاد بي شريط العمر إلى عشر سنوات مضت، الى تلك اللَّحظات الملوَّنة منه، قبل أن يتحوَّل إلى فيلمٍ سينمائيٍّ رديءٍ، باهت الصّورة، سيِّء الإخراج .

"ر"، السنونوة الّتي اقتاتت كثيراً من رغيف القلب بعد ان حطّت يوماً في حديقة أيّامي هاربةً من غربان القدر "ر" والصّباحات الشّتويَّة المعطَّرة برائحة اشجار الصنوبر ، حينما تنهض مسكوناً بنشوة الفرح، على شفتيك ابتسامة لا تعرف من أي حلم اتت. "ر"، وصوت جين كيلي يصدح في أرجاء ذلك المقهى البحريّ بأغنيته الشّهيرة "الرّقص تحت المطر"، وهي أمامي هاربة من محرقة التّقاليد، ، متخطّيةً، ملكوت القيد وتوابيته مصرة على الرقص تحت المطر. "ر"، سنوات مضت و… يقطع حبل أفكاري صوت طرقاتٍ قويّةٍ على الباب. يبدو أنّ الصّبيّ قد عاد!!!

أضع الصّورة جانباً، وأتّجه إلى الباب الخارجيّ لأفتحه، فيطالعني وجه جاري الأحمق، محي الدّين، بشفتيه الغليظتين الضّخمتين، وأسنانه الصّفراء البارزة بشكلٍ مبالغ فيه ، يسألني عمّا إذا كان لديّ كهرباء!! أجبته بنعم، لكنّي أكّدت له أنّني إذا رأيت أخيه بجانب صندوق عداد بيتي وفي يده كمّاشة وأسلاك: سأفعل به ما لم يفعله هولاكو بحاكم بغداد، وسأقطع له أذنيه، وأجبره على ابتلاعهما!!! فأجابني بأنَّه "معي حقّ"، وأنّه يجب أن أمنع أيّ شخصٍ من أن يقترب من صندوق العدّاد، وأنّ هناك رجلاً يعرفه في البلديّة، يستطيع عبره أن يغيّر لي قراءة الصّندوق ان اردت مقابل رشوةٍ صغيرة. صحيح أنَّ هذا الرّجل بغيض ومكروه من قبل الجميع، لكنَّه وكما قال: يستطيع المرء أن يستفيد منه، و"بوس الكلب من تمو لتاخد حاجتك منّو". قالها لي مشعلاً سيجارته "السيديرز"، ضاحكاً مفتخراً بنفسه، تاركاً إيّاي مع سحب دخانه، أتخياله "بشفاتيره الغليظة وأسنانه الصّفراء البارزة"، أتخياله "يبوس الكلب من تمو". يععععععععععععععععععععععععععععععععع. إنّ أقذر كلبٍ في هذا العالم سيكون أبشع كوابيسه أن يتلقّى قبلةً من محي الدّين، يععععععع.

إذا كان هذا المثل البليغ مبدأ محي الدّين في الحياة، فمن الطّبيعيّ أن تكون جميع مشاكله محلولةً!!! يعععععع. يثرثر معي قليلاً، ثم يهرول إلى بيته بعدما سمع زعيق زوجته يناديه. فأعود أنا إلى الدّاخل، .لقد تأخّر ربيع حقّاً ودكّان الشّعبوني ليست ببعيدة. غريب! بدأت أشعر بالقلق حقّاً. لقد مضى على غياب الصّبيّ ثلث ساعة تقريباً منذ أن غادرني. صحيح أنّ أمره لا يهمّني، لكنّي لا أريد أن يصيبه مكروه بسببي، سمعت مجدّداً صوت طرقاتٍ على الباب، يبدو أنّه عاد هذه المرة. رسمت على وجهي ملامح صارمة، متهيّئاً لأن أقرّعه تقريعاً عنيفاً على تأخيره، مع تهديدي المعتاد بالبوح لأمّه. سأبالغ هذه المرّة في تعذيبه. فتحت الباب، لم يكن هو مجدّداً بل كان جاري الآخر، الفتى المراهق بلال، ابن جنيد الحبشي، صاحب محلّ العصير على الزّاوية، والّذي يسبّح الله بكرةً وعشيّةً أمام المحلّ، فيما يغشّ وينصب دوماً على الخلق، ويقسم لك برحمة أمّه أنّ العسل الّذي يبيعه أصليّ، وأنّه يتابع النّحل وهو يجمع الرّحيق بنفسه، ناسياً أنّني كذا مرّة وجدت بعض الذّباب السّاقط سهواً في أكواب الكاستر الّتي يصنعها هو ويضع عليها شيئاً من عسله المميّز.

بعد السّلامات الحذرة والنّظرات الشّذرة سألته ماذا يريد. فأجابني وهو يسحب دفتراً صغيراً ليسجّل عليه اسمي:بيقلّك بابا بدنا نجمع تبرّعات كرمال نزيّن الحي!!!

– شو؟؟!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

– بيقلّك بابا… هنا صعد الدّم إلى رأسي، فانفجرت به صارخاً، وأنا أستلّ يد الرّفش الّتي أضعها بجانب الباب:

– يلعن أبوك… زينة للحيّ؟! والمزبلة اللّي بنصّ الحيّ وإلها سنين، شو هيدي جزء من الزينة؟؟!!… يعني هلّق استفاق حسكون الجمّالي، ولك اُغرب عن وجهي أيّها الحقير، لعنة الله عليك وعلى اللّي خلّفوك. اذهب قبل أن أركلك ركلةً أترك فيها حذائي داخلك، اذهب، اذهااااااااااااااااااااااااااااب.

هرب من أمامي فوراً، غير متوقّع فورتي المفاجئة في وجهه، ووقف من بعيد ينظر إليّ ليستوعب الأمر، فيما أغلقت أنا الباب خلفي في عنف. بقيت ثواني حتّى هدأت أعصابي، شعرت برغبةٍ ماسّةٍ بمغادرة هذا الحيّ قبل أن أختنق.

أين هذا الصّبيّ الحقير؟ لماذا تأخَّر؟ بقيت أجول في الغرفة جيئةً وإياباً. لم تمض دقائق حتَّى سمعت صوت جلبةٍ في الخارج، يقطعها صوت حادّ يشبه صوت عواء جرو جريح. إرتديت حذائي مجدَّداً، وخرجت لأرى ماذا يحدث، وإذا بي أرى ربيع محاطاً بمجموعة من شباب الحيّ، وهو يعوي في منتصفها شاكياً باكياً.

اللعنة، إذا ما أصابه مكروه، فأنا أعرف مسبقاً ماذا سيحدث، سينسون من آذاه، ولن يتذكّروا إلا من أرسله. أعرف كيف تفكّر هذه الكائنات. وصلت إليه. كان يبكي بصوتٍ مزعجٍ للغاية فاتحا فمه الى اقصاه فيما زلعومه يتراقص بجنون. صرخت به أن طالبا منه أن يصمت، لكنّ صوته كان يعلو أكثر فأكثر، نظرت إلى يديه وجيبه لأرى إن كان قد أحضر لي ما طلبته منه، فلم أجد شيئاً،. وهنا وصل قرفي منه الى ذروته. إنّه مقزّز حينما يكون سعيداً، فما بالك وهو يزعق وينهق ويبكي

– ماذا حدث لك؟؟؟

– عوووووووووووووووووووووووو

– تكلّم ماذا بك؟؟

– عووووووووووووووووووووووو

تقدّم منه أحد شباب الحيّ واسمه جميل، لكن علاقته بالجمال بعيدة للغاية، فسأله: هل آذاك أحد؟

– عوووووووووووووووووووووووووووووووو

بقى يعوي لثواني قبل أن تظهر أمه من بين الجموع وتشقها لتصل إليه صارخة :

– من آذاك؟؟

– عووووووووووو، الشعبونييييييييييييييييييييييييييييييييي، هوووووووووووووو

– لماذا؟

– هووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووو

– لماذاااااااا؟ أجبني؟؟

– عووووووووووووو عووووووووووووووووو عوووووووووووووووو

جرّته أمّه من يده وهي تقدح شرراً، وتبعتها الجموع متوجّهةً نحو دكان الشعبوني. كان الشعبوني جالساً مسترخياً في دكانه، ممدّداً رجليه على كرسيٍّ أمامه، وبجانبه على طاولةٍ أخرى بقايا غداء دسم، وأرغيلة ضخمة كان يعدل في نارتها ويمجّ منها أنفاساً عميقة، عندما فوجئ بأم ربيع ومعها الجموع أمام دكانه.

بدأت أمّ ربيع على الفور بإطلاق وابلٍ من السّباب البذيء على الشعبوني، الّذي استطاع صدّ الهجوم بقذفٍ نوعيّ من المسبّات الثّقيلة من الزنّار ونازل.

أخذت الأمور تسوء وتتصاعد تدريجيا، وخصوصا عندما انضمّ محي الدّين إلى جبهة أمّ ربيع، فبدأت بوادر الاشتباكات بالأيدي تظهرفي الافق. تركت هذا كلّه وعدت إلى البيت لاعناً الساعة التي أرسلته فيها إلى دكان الشعبوني. أخذت مفتاح سيارتي وبذتي الرّصاصيّة وغادرت البيت. في الطريق لاحظت أنّ الاشتباك قد فضّ، لكن أمّ ربيع كانت تقف أمام بيتها، وأمامها كوكبة من نساء الحيّ تلقي عليهنّ خطبتها الافتخارية في نسبها ونسب عائلتها، وتسفه آل الشعبوني بأقذع الألفاظ!

تركت كلّ هذا وراء ظهري وانطلقت. ما أجمل الحريّة.

في المساء، وبعد عودتي من السّهرة إيّاها في جبيل، وجدت محي الدّين واقفاً أمام بيته يصرخ في ثلاثة عمال سوريّين مساكين بأن يسرعوا بنقل أكياس الإسمنت إلى الأعلى.

لم أستوعب ماذا يفعل في البداية، لكني تذكّرت على الفور "ثورة المشاعات" التي يعيشها بلدنا هذه الأيّام، والتي تتجدّد إثر كلّ فراغٍ سياسيّ تمرّ به الحكومة، وطبعاً محي الدين لن يضيّع هذه الفرصة من يده. خصوصا انه يطبق سياسة "بوس الكلب…". سلّمت عليه، فدعاني إلى مشاركته شرب الشاي على العتبة، لم أكن أرغب بالجلوس، لكن فضولاً عارماً كان يتملّكني بأن أعرف ماذا حدث، وكيف انتهت المشكلة.

قال لي: أرسل أحدهم ربيع ليشتري له شيئاً من دكّان الشعبوني، غير عالمٍ بأنّ أسرة ربيع مديونة منذ أشهر لدكّان الشعبوني، وهي لم تسدّد هذا الدّين بعد، وقد أتى ربيع في وقتٍ لم يكن مناسباً إطلاقاً، فالشعبوني كان منتهياً للتوّ من وجبة غداء دسم، ويريد بعض الاسترخاء، فيما ربيع كان كعادته، يريد أن يشتري الأغراض بنصف ثمنها، لكي يستفيد من النّصف الأخر، فأخذ يرجو الشعبوني ليخفّض له سعرها إلى النّصف، ويلحّ عليه، حتّى ضاق الشّعبوني ذرعاً به، فضربه بملقط الفحم على رأسه، وسبّه وسبّ أهله، داعياً إيّاهم إلى سداد ما عليهم من ديون قبل شراء أيّ شيء.

يتبع

 

السابق
“الفايس بوك”: ماذا تخبئ “نكسة” 5 حزيران.. بعد “نكبة” 15 أيار؟
التالي
سورية واليونيفيل… وصناعة الخوف اللبناني