هاجس 14 آذار أمنيّ وهمّ الأغلبيّة دستوريّ

للأغلبية الجديدة العديد من الأسباب لتعيش حيرتها، فمع تأخر تأليف الحكومة والمفاوضات الشاقة التي تجرى، تقف اليوم أمام معضلة أن المجلس النيابي منعقد حكماً، لكن قد لا يحقّ له التشريع، بينما حيرة قوى 14 آذار من منابع أخرى تماماً

تفتقد قوى 14 آذار الخط الخارجي، فهو فعلياً بيد فؤاد السنيورة، الذي يكاد يكون الوحيد العارف بخريطة الطريق الغربية، وأحدث التوجيهات، وهو ليس ممن يتحدثون في المفارق والزواريب. الآخر الذي يعرف بالتلمّس التوجّه الغربي هو سمير جعجع، قائد القوات اللبنانية، صاحب شبكة العلاقات السياسية ـــــ الأمنية بالغرب.

وتصبح عملية تلمس مقاصد الغرب واتجاهاته أصعب فأصعب كلما توجهنا نزولاً في السلّم الوظيفي/ السياسي في البلاد، فسعد الحريري يكتفي بتتبع خطوات موصوفة، ومن بعده أمين الجميّل، وصولاً الى جمال الجراح وخالد الضاهر، الذي لا يكاد يعرف على أي جنب يفترض أن ينام.
النقاش الفعلي بين قوى 14 آذار حول مدى إمكان التدخل الممكن في الملف السوري اليوم، ومساندة الحراك الشعبي الجاري، ومدّه بالإعلام والمال والدعم المعنوي، وإرسال الخبرات، بينما أصواتٌ أعلم ببواطن الأمور تطلب دائماً عدم التحرك في سوريا، «فالغرب لم يأخذ قراره النهائي هناك، ومن شأن تدخل أي فريق من 14 آذار في ما يجري في سوريا أن يجلب العواقب الوخيمة على كل التجمع، وخاصة تيار المستقبل».
والنقاش الحكومي في لبنان لا يعني الكثيرين من فريق 14 آذار، على العكس، ولا الجانب الدستوري يعنيهم لا بالقليل ولا بالكثير، وإن كانت المشاركة فيهما من باب إظهار عجز الأكثرية الجديدة عن الوصول الى تأليف حكومة، فما بالك بإدارة البلاد.
وتكررت زيارات أكثر من شخصية من قوى 14 آذار للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهناك طرحت هذه الشخصيات ضرورة رفع درجة الضغط على سوريا، وزيادة العقوبات وتوجيهها نحو مراكز محددة في السلطة، وللمفاجأة سحب الوحدات الأوروبية في قوات الطوارئ الدولية العاملة في الجنوب اليونيفيل، حتى لا تستخدمها سوريا وحزب الله رهينة، وليتمكن الغرب من التحرك بحرية من دون التفكير بجنوده في لبنان.
وفي مقابل ما قاله اللبنانيون للأميركيين، فقد سمعوا إشارات واضحة الى أن 3 مواقع حكومية مطلوب الحفاظ عليها، أولاً وزارة العدل، وثانياً وزارة الداخلية وثالثاً وزارة الاتصالات، وفي حال فقدان هذه المواقع الثلاثة فإن ذلك سيمثّل صعوبة أمام المحكمة الدولية في متابعة أعمالها وملفاتها، ويوقف التدفق الحر للمعلومات إليها.
قلق في المجلس
أما على ضفة الأزمة الحكومية، فإن قوى 14 آذار اعترضت على تشريع المجلس لحل أزمة حاكم المصرف المركزي المنتهية ولايته من منطلقين: الأول هو المنطلق السياسي المحض، إذ أتى الاعتراض من باب رد الفعل السياسي على خسارة قوى 14 آذار للأكثرية النيابية ونهاية قدرتها على الحكم وعلى تأليف الحكومات، كما أنها ردة رجل لرئيس مجلس النواب نبيه بري حين تصرف من خارج النص الدستوري، وإنما من منطلق «القدرة على الفعل» في عام 2006 وأغلق مجلس النواب.
الاعتبار الثاني لدى قوى 14 آذار، وخاصة تيار المستقبل، أن في لبنان فصلاً للسلطات، ثم إن السلطات موزعة على الطوائف، ويتطلب إصدار قانون تكاملاً بين الطوائف الرئيسية، من الشيعة في رئاسة المجلس، والموارنة في رئاسة الجمهورية والسنّة في رئاسة مجلس الوزراء. وبالتالي، فإن صدور قانون في ظل الأزمة الحكومية الحالية يمنع عملياً مشاركة السنّة، وسيكون إصدار قوانين في ظل غياب طائفة عن أداء دورها (حصتها) في الحكم بمثابة إخلال في روحية حفظ التوازنات الطائفية في البلاد «بشكل عادل» كما في الفقرة 95 من الدستور. وبالتالي، يمكن السنّةَ القول إن صدور أي قانون قد حصل بغيابهم الكامل عن موقعهم الرئاسي في النظام.
من ناحية قوى الأكثرية، فقد كادت تقع في فخ سيطرة النظام المجلسي على البلاد. فالدستور، وإن كان في نقطة يثير الالتباس، إلا أنه يقوم على مبدأ فصل السلطات (مقدمة الدستور المعدلة، الفقرة هـ. التي تنصّ على أن «النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها». والتعاون بحسب الخبراء الدستوريين لا يعني حلول المجلس مكان الحكومة، أو القيام بواجباتها).
ومن الصعب إيجاد فتوى قانونية بجواز إصدار مجلس النواب قانوناً تنفيذياً أو يتعلق بشخص واحد، أو ظرف محدد. فبحسب الخبراء القانونيين، القوانين أساساً موجودة لتكون عامة، ويحال على السلطة التنفيذية تطبيقها، كما أن صدور قانون في ظل حكومة مستقيلة مثار جدل ينتهي في كل أحواله بالسلب لا الإيجاب.
وعلى سبيل المثال، فإن قانون الإفراج عن سمير جعجع فاسد لسببين: الأول يتعلق بأن الحكومة كانت مستقيلة لحظة صدور القانون، والثاني هو أنه يتعلق بشخص (أو مجموعة أشخاص بإضافة معتقلي الضنية)، وهو مخالفة لجوهر القوانين.
التكليف وسحبه
النقطة الأخيرة المثيرة للحيرة التي تبحثها الأكثرية الجديدة على المستوى الدستوري هي إمكان سحب الثقة من الرئيس المكلف. وبحسب أحد الدستوريين، فإن صاحبي الولاية المحددة زمنياً، رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي، لا يمكن سحب الثقة منهما، أما رئيس الحكومة فهو خاضع للمحاسبة عبر نزع الثقة في المجلس النيابي، إذ ما من مسؤول يتولى المسؤولية من دون إمكان محاسبة (ولو نظرية). ورئيس الجمهورية يمكن محاسبته بحالات محددة بالخيانة العظمى أو تجاوز الدستور (المادة 60).
أما رئيس الحكومة المكلف فهو كيان انتقالي بحسب الدستور، ولا صفة له، فهو رئيس مكلف بتأليف الحكومة فقط، وصلاحياته هي تأليف الحكومة والتوقيع على مرسوم تأليفها الى جانب رئيس الجمهورية. ولم يحدد الدستور مهلة لرئيس الحكومة المكلف لتأليف الحكومة لأن التأليف يخضع لثلاث قوى، رئيس الجمهورية والكتل النيابية التي تمثّل الأغلبية، وشخص رئيس الحكومة المكلف.
لكن، بما أن التكليف يصدر عن رئيس الجمهورية بموجب الاستشارات النيابية الملزمة بحسب الدستور، فإن دور الرئيس هو فرز الأصوات وإصدار مرسوم تكليف «إعلاني» برغبة الأكثرية النيابية وإرادتها، إذ إن رئيس الحكومة المكلف يخضع لرأي الأغلبية التي سمّته، وهي التي يمكن أن تسقطه بعد أن يبدأ بالحكم، كما يمكنها أن تحجب عنه الثقة بعد تأليف حكومته وتقديمها أمام البرلمان.
ومن باب أولى، فإن من كَلف يمكنه أن يحجب الثقة أو يمنحها في البرلمان بعد صدور مرسوم تأليف الحكومة، ويمكنه أن يسحب التسمية التي قدمها الى رئيس الجمهورية، وأن يسقط رئيس الحكومة قبل أن يؤلف حكومته.
وبحسب هؤلاء القانونيين، فإن المسؤول الأول عن استمرار أزمة تأليف الحكومة هو الأغلبية النيابية التي سمّت الرئيس، فهي من بيدها الأمر، وهي من تقرر أولاً وعلى نحو فاعل ثقتها برئيس الحكومة المكلف أو انعدام هذه الثقة، وهي المسؤولة عن تكليف وزرائها انطلاقاً من تفاهمها (أو حتى خلافها) مع رئيس الحكومة المكلف ورئيس الجمهورية، وهي من بيدها أيضاً إعادة الأمور الى النقطة الصفر والعودة الى تكليف رئيس آخر لتأليف الحكومة.
ويضيف هؤلاء إن شكلين ممكنين دستورياً لسحب التكليف: الأول هو عبر اجتماع لمجلس النواب (الذي يعدّ بحال انعقاد دائم منذ استقالة الحكومة) والطلب من الرئيس المكلف الاعتذار بعد سحب الأكثرية تسميتها له، أو عريضة موقعة من نصف عدد النواب الذين سمّوا رئيس الحكومة المكلف + 1.
لكن ضرورات التوازن المذهبي أولاً، والبعد السياسي لأي عملية مشابهة ثانياً، سيمنعان هذا الخيار في المدى القريب، إضافة الى أن هناك من بدأ يقر بأن المشكلة ليست في رئيس الحكومة المكلف، الذي يبدي تعاوناً ضمن الأطر المتعارف عليها، ولا في رئيس الجمهورية الذي يمكن ضبط إيقاعه ومطالبه ومطامحه، بل في أطراف أخرى باتت تطلب أكثر مما يمكنها أن تتحمل.

السابق
الحياة: مشاهدات في بيروت عن ثورات العرب
التالي
شموع في صيدا لـ”شهداء العودة”