الأكثرية شرعت في حِراك مكثّف لكشف حدود التداخل بين خلافات الداخل وطلبات الخارج

يدور في اوساط الاكثرية الجديدة حديث خافت فحواه، ان هذا الفريق نجح في حراك منسق قام به اركانه في الايام الاربعة الماضية، في وضع رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان ورئيس الوزراء المكلف منذ اكثر من 100 يوم نجيب ميقاتي، امام امر واقع عنوانه العريض، ان مرحلة التهرب من استحقاق التأليف قد مضى الى غير رجعة، وان التستر خلف قضايا خلافية للتلكؤ في انجاز هذا المطلوب منه بإلحاح قد انطوى.

مبتدأ الحراك، وهزته الصادمة، تمثل في الكلام الذي ادلى به رئيس "جبهة النضال الوطني" النائب وليد جنبلاط، نهار الاثنين الماضي والذي اعتبر بمثابة جرس انذار، حرص جنبلاط على ان يكون كلامه موزونا بميزان الذهب، ليؤدي غرضه وكي لا يؤخذ الى المكان الخطأ. فهو كلام مكتوب سلفاً، وهذا يعني انه مدروس بعناية وتأنٍ. وحرص على ان يطلقه، ويشفعه بكلام عن زيارة رسمية لدمشق قام بها امس، كي لا يفسر الامر على انه حركة في سياق اعادة تموضع سياسي جديد.

واشفعه ايضا بكلام آخر، تركز على مسألة التمايزات الحاصلة في داخل الاكثرية الجديدة، وذلك عندما تحدث عن ان هذا فريق يجمع تحت لوائه 3 افرقاء هم قوى 8 آذار (اي "حزب الله"، حركة "امل"، "التيار الوطني الحر"، تيار "المردة" والنائب طلال ارسلان ومن يهتدي بهديهم) وجبهة النضال الوطني التي يتزعمها والتي رست اخيرا في الموقع الذي رست فيه بعد طول وقوف في خط الوسط، فيما الطرف الثالث هو الرئيس ميقاتي نفسه.

والواضح ان جنبلاط اراد ايضا من خلال هذا "التوصيف" ان يقول كلاما يفيد لعبة المستقبل السياسية من خلال اشارته البينة الى ان هذه مكونات الاكثرية الجديدة متجانسة ولكنها ليست "متهاجنة" ومتداخلة.
وبدا جليا وفق اوساط الاكثرية ان رئيس مجلس النواب نبيه بري اسبغ على حركة جنبلاط مباركة وتأييدا حتى ان ثمة من عد بري بأنه خط دفاع خلفي عن موقف رئيس "جبهة النضال" لاعتبارين اساسيين. الاول: ان بري حريص كل الحرص على اظهار ان ثمة تناغما كبيرا في المواقف بينه وبين جنبلاط. والثاني: ان بري وجنبلاط كليهما يستفيدان من وجود حكومة اصيلة، اكثر من وضع المراوحة الحالي.

ومع ان رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد حرص على اعطاء كلام جنبلاط عن موضوع الحكومة نعت التأفف من حال المراوحة والعجز عن التأليف، وهو ما من شأنه ان يستنفد رصيد الاكثرية الجديدة، فإن الواضح ان "حزب الله" وحركة "امل"بنيا على الصدمة الايجابية التي احدثها كلام جنبلاط، وشرعا في تسويق الصيغة الجديدة التي اجترحاها لتسوية مشكلة وزارة الداخلية وازالتها، واستطرادا لإسقاط "ستارة" الداخلية التي يختبئ وراءها من يختبئ.
وعليه، كانت فكرة طرح الاسماء الثلاثة لتولي الحقيبة المختلف عليها على اساس ان يدرس الرئيس سليمان والعماد عون هذه الاسماء، ويقبلا الامر على وجوهه المختلفة، ومن حيث يقولان كلمتيهما الفصل.

وما ساهم في الامر، ان الرئيس ميقاتي مضى في تأييد هذا الاقتراح. ثم كانت الخطوة التالية "الاحترافية" المتمثلة في الاسماء الثلاثة المطروحة، اذ ان ثمة من يقدر في ان اختيار هذه الاسماء تم بصورة ذكية، كون الجميع يعلم ان الرئيس سليمان سيختار واحدا بعينه، وهو الضابط المتقاعد الذي يعرفه سابقا، كونه ابن دورته وابن منطقته، وقد تعامل معه ردحا طويلا من الزمن، فضلا ان الهوى السياسي للرجل لا يتناقض مع توجهات رئيس الجمهورية.
وفي هذا الامر رغبة مضمرة في خوض غمار اختبار اخر مخفي، عنوانه العريض معرفة حقيقة نيات الجميع، وفك اسرار الاحجية، عبر الاجابة عن سؤال باتت الاجابة عنه جوهرية بالنسبة الى الجميع وفحواه:

هل العقدة الحائلة دون ولادة الحكومة ناجمة عن خلافات داخلية تتصل بالتوازنات الحالية، ام ان ثمة من يتلطى وراء هذه العقدة، وبالتالي ينفذ بشكل او بآخر رغبة قوى وعواصم خارجية لا تريد لحكومة الاكثرية الحالية ان تقوم لها قائمة في البلد في المرحلة الراهنة، رهانا على تغيرات وتحولات موعودة في المنطقة عموما بدءا من سوريا؟ وبمعنى اخر، سيكون في امكان هاتين القوتين اللتين لجأتا الى اقتراح الاسماء الثلاثة، ان تحرج الجميع تيقنا من مسألة عنوانها هل ستنتقل العقبات المانعة لاستيلاد الحكومة الى مستوى اخر، كمثل الخلاف على البيان الوزاري الذي يتعين على الحكومة الجديدة ان تضعه لتنال على اساسه ثقة مجلس النواب، ام ان ابواب المشهد العام ستنفتح على أزمات جديدة، وساعتها سيكون لكل فعل رد فعل؟
هذا اذاً، في معنى من المعاني خيار اللحظة الاخيرة الذي سيسقط كل الستائر التي يمكن كل الاطراف ان تحتجب وراءها، ويساعدها في ان لا تفصح عما يمكن ان يكون مطلوبا منها في هذا الشأن او ذاك.

وبالطبع ما كان هذا كله ليحدث، لولا ان دوائر القرار في الاكثرية الجديدة بدأت تتحدث صراحة عن بلوغ المعنيين الاكبرين بتشكيل الحكومة في بيروت رسائل مباشرة واخرى غير مباشرة من دمشق، فحواها: اذا كنتم تنتظرون ان "ننكسر" ونقع، لتبنوا على الشيء مقتضاه، فالامر تجاوزناه وصار وراءنا! اما اذا كنتم ترهنون اقدامكم على ما ينبغي ان تقدموا عليه على ان نحقق انتصارات على من شاء ان يتحدانا، فقد تأخرتم.

وفي موازاة ذلك، فثمة في كواليس الاكثرية الجديدة من لا يرغب في ان يضع نقطة على نهاية سطرالحديث عن ابعاد "الانتفاضة" الجنبلاطية الاخيرة في ملعب الاكثرية من دون الاشارة الى مضامين رسالة بعيدة ذات شقين اراد جنبلاط ان يبعث بها الى احد شركائه في الاكثرية الجديدة يرفض فيها رفضا قاطعا ما بدأ يهمس به هذا الشريك في دوائره الضيقة عن رغبته في الشروع لتسمية شخصية جديدة (غير الرئيس ميقاتي) من سنة المعارضة ليكون رئيسا للحكومة العتيدة.
اما الشق الثاني من الرسالة فهو موجه الى حلفاء الامس خصوم اليوم، وفحواه انه حريص على الا يسير في خيارات بالغة الاستفزاز ضدهم، ولهذا تلقى شكرا خاصا من الرئيس ميقاتي رغم ان هذا الاخير اخذ وقته في "المناورة" لئلا ينفذ طلب جنبلاط بالتمثل بوزير سني، قبل ان يقبل في خاتمة المطاف ان يتجرع هذه الكأس.

السابق
النهار: تحفّظ شيعي يعكّر ثوابت قمة بكركي
التالي
المشاعات، سوليدير، والمسؤولية السياسية