غيفارا – بن لادن بداية وقت.. ونهاية أزمان

مع نهاية الحرب العالمية الثانية في العام 1945, تبلور معطى جديد على الساحة الدولية, فبقدر ما ساهمت الحرب ضد النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا, واليابان بدعم قبضة الحزب الشيوعي على الاتحاد السوفياتي ودعم موسكو أدبياً على مستوى العالم رغم خسائرها الجسيمة, فإن هذه الحرب فتحت أفقاً جديداً أمام الولايات المتحدة الأميركية, اذ إن قيادتها للجناح الأوروبي الآخر المناوئ للنازية والفاشية واستسلام اليابان التي أوجعتها في بيرل هاربر, وذلك بعد إلقاء قنبلتين نوويتين على هذا البلد الآسيوي المشاكس. كل ذلك أشعر واشنطن بزعامتها كوريث شرعي لأوروبا الإمبريالية أو الاستعمارية.

من هنا دخل العالم في حقبة جديدة هي الحرب الباردة, وهذه الحرب وإن كانت ساخنة هنا أو هناك في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية, فإن صبغتها الأساس هي الجاسوسية, وحرب الأفكار والرؤى.
الولايات المتحدة الأميركية, بعودتها القوية الى العالم القديم, لم تحمل إليه قيم الحداثة والتنوير التي كانت هي مطبخها في القرنين الـ 18, 19 والمتبلورة في دستورها العظيم, ولاسيما فيما سمي ميثاق الحقوق المدنية.
فالولايات المتحدة الأميركية كونها بلد بلا تراث, ومكونة من مجاميع شتى من البشر, وإن غلب عليها الأوروبيون, استفادت من آخر ما توصل إليه الفكر الإنساني في مجال العلوم الإنسانية والتقنية, وأضافت إليه مما عزز انطلاقتها في أرض بور تحفل بمخزون لا ينتهي من الموارد الطبيعية, وأضيف اليها الفكر والعلوم الحديثة. هذا لا يعني بطبيعة الحال أن أوروبا بمجملها خارج السياق, إلا أن التنافس والتراث والعداوات التاريخية اعاقت انطلاقتها مقارنة بأميركا, وفي الجانب الآخر ظهر الاتحاد السوفياتي, الذي نجح من خلال تحييد التراث بمعناه المعوق, وانتهج نهجاً علمياً وأيديولوجياً صارماً, مكَّنه من التحول إلى قوة عظمى, وأن يبسط نفوذه إلى أوروبا الشرقية, وبعض المناطق في أميركا الجنوبية وآسيا وأفريقيا.
هذه مجرد اطلالة على زمن وعالم وتحولات ما بعد الحرب العالمية الثانية.

الولايات المتحدة الأميركية التي نسجت تحالفاً مع أوروبا الغربية, وجدت نفسها أمام تحديات شتى أبرزها أوروبا المدمرة جراء الحرب وعالم نام يتطلع الى الاستقلال والحرية وتحكمه أدبيات الماضي بما في ذلك الشرق الأوسط, وتنظر نخبه المثقفة والوطنية إلى الأفكار الاشتراكية وتجربة الاتحاد السوفياتي كأنموذج يحتذى به, لذا انتهجت واشنطن مسارين لمعالجة واقع ما بعد الحرب وتأكيد زعامتها في العالم أولهما في أوروبا الغربية, حيث إن أفكار التنوير والحداثة نبعت منها وهي الموطن الأصلي للفاتحين الأميركيين الأول, فكانت المعالجة مادية من خلال مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا وتأهيلها لمقارعة الفكر الاشتراكي وما سمي بـ "الغواية الشيوعية" في الجانب الآخر لاسيما في الشرق الأوسط عمدت واشنطن وحلفاؤها إلى معالجة مختلفة من خلال إعادة تسويق الأصوليات الدينية وقيم الماضي لمواجهة الاتحاد السوفياتي ودعم القوى الرجعية وتنصيب الديكتاتوريات في دول العالم النامي عموماً.

وهكذا ظهرت التنظيمات اليسارية التي اعتمدت العنف الثوري للخلاص من الهيمنة الرأسمالية والإقطاع والأصوليات اللاهوتية, وانتشرت في كل قارات العالم بما في ذلك أوروبا الغربية واليابان وغيرها من مناطق العالم.
وبرز في هذا السياق من دون الدخول في المسميات تشي غيفارا الأرجنتيني المولد, والكوبي الجنسية كمناضل أممي, واستطاع إسقاط عدد من الديكتاتوريات في أميركا اللاتينية, وحارب في أفريقيا, حيث تخلى عن مناصبه في حكومة كوبا بعد نجاح الثورة فيها ليحارب إلى جانب قائد ثورة الكونغو باتريس لوممبا, ثم غادر أفريقيا إلى أميركا اللاتينية مجدداً حيث قتل الدكتور تشي غيفارا في أحد الوديان الجبلية في بوليفيا العام 1967 بتنسيق بين المخابرات الأميركية والحكومية البوليفية وأخفيت جثته ومكان دفنه. وتحول غيفارا إلى ملهم للشباب في شتى بقاع الأرض, ورفعت صوره في كل مكان, وبعد غيفارا لم يظهر ثائر يساري أممي بهذا الحجم والشهرة.

ومن هنا لم يكن مستغربا أن ترفع صورة أسامة بن لادن في مظاهرات مؤيدة له في أميركا اللاتينية بعد أحداث 11/9/2001, حيث أنزلوه بمنزلة غيفارا ولكن الواقع يشير إلى إننا أمام شخصيتين مختلفتين فكرياً, فإذا كان غيفارا نتاج حقبة الحرب الباردة, ونتاجا للأفكار الماركسية اللينينية, فإن ابن لادن هو نتاج للأفكار الأصولية التي ساهمت الاستخبارات الغربية في تغذيتها, إبان الحرب الباردة من خلال نسج تحالفات مع التنظيمات الإسلامية لمحاربة الأطروحات القومية وقوى اليسار والتنوير في الوطن العربي الإسلامي, وبرز الأخير كمناضل في صفوف الأميركان ضد الغزو السوفياتي لأفغانستان العام 1979, وساهم في حرب ضروس دامت نحو عشر سنوات, قرر على أثرها الاتحاد السوفياتي الانسحاب من هذا البلد المسلم, وتركه لمصيره المظلم في العام 1989.
انسحاب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان جاء بعد مراجعة شاملة, وإعادة الاعتبار للجدلية الماركسية, بدليل أن الاتحاد السوفياتي تخلى عن أوروبا الشرقية وجر الولايات المتحدة والغرب إلى مقاربات عقلانية في مجال سباق التسلح ومفاهيم الحرب الباردة, وإن أدت هذه المقاربات الى تفكك الاتحاد السوفياتي فإن مفاعيلها ما زالت ماثلة.

أسامة بن لادن استفاد من تجربته في أفغانستان, وأعاد جدولة أفكاره ووجد أن الولايات المتحدة الأميركية شر آخر لا بد من منازلته, لأنها وراء الكوارث التي تحيق في العالمين العربي والإسلامي, وإن كنا نعتقد أن جزءا من أزمتنا وأزمة ابن لادن هو الفكر الذي يحمله و"طالبان" إذ إنه ينطلق من فكر ديني مزقته اجتهادات الفقهاء وفتاوى شيوخ الدين طوال الـ 15 قرنا الماضية, وما زالت تحكمه المتناقضات.
قصة ابن لادن كما هي قصة غيفارا باتتا معروفتين للجميع, فكلاهما أخفيت جثته أو مكان دفنه, وإن كان ابن لادن قد رمي جثمانه في بحر العرب كما أعلن.
ماذا بعد?

لا شك أن وفاة ابن لادن ستؤدي إلى عمليات توصف بالإرهابية هنا أو هناك, لكنها في النهاية ستتلاشى تدريجياً كما تلاشت ظاهرة العنف الثوري أو السياسي في أميركا اللاتينية والعالم, حيث حلت محلها ثورات شعبية مطالبة بالحرية والكرامة وحقوق الإنسان الأولية والاجتماعية والاقتصادية, بدأت في أوروبا الشرقية وامتدت إلى أميركا اللاتينية ووصلت متأخرة للوطن العربي, والثورات في الوطن العربي كفيلة في القضاء على الفهم المتخلف للدين, ومحاولات التخويف من فكر القاعدة.
العالم اليوم أمام تحولات عالمية (كان لغيفارا وابن لادن إسهاماتهما في بلورتها) وهي استحقاقات عمادها حقوق الإنسان, وهذا نضال أممي تقوده شعوب الأرض قاطبة والمنظمات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني, أما المحددات التنموية وإدارة شؤون التنمية الاقتصادية والاجتماعية فتحددها معطيات وإمكانيات كل دولة وفقاً لمواردها الطبيعية والبشرية, في إطار مؤسسات ديمقراطية ورؤى تكاملية. إننا أمام "بداية وقت.. ونهاية أزمان". أضرت بالبشرية في حروب عبثية وانقلابات وانقلابات مضادة. مع الاعتذار لصاحب أغنية "مجموعة إنسان" الذي اقتبسنا منه العنوان. لأن الإنسان بمجموعه هو المهم.. والوقت هو وقت احترام الإنسان الذي كرمه الله واستخلفه في الأرض.

السابق
آلة لتبادل القبلات عبر الإنترنت
التالي
ستار أكاديمي حاضر براق ومستقبل مجهول