سوريا الجديدة.. بلا تماثيل

بدأ الجمهور السوري رحلة التصالح مع «الجمهورية العربية السورية». فالشعب المنشغل عن عموم لبنان وفلسطين والعراق، ينشغل اليوم بنفسه. وقد نجح حتى الآن بتنبيه السلطة إلى خمس حقائق كانت ربما تجهلها. في ظل انقسام المعارضين والسلطة بين وجهتي نظر.

سقط النظام السوري أم صمد؟! ولدت في الأيام القليلة الماضية جمهورية عربية جديدة. فالشباب، غير المندسين، والمعروفون لأبناء مناطقهم جيداً، تسلقوا تماثيل لطالما خافوا من النظر في عينيها، زعزعوا أساسها تمهيداً لخلعها. أسقط هؤلاء 6 تماثيل في محافظات مختلفة للرئيس الراحل حافظ الأسد، عمدوا في محافظة دير الزور إلى إحراق تمثال باسل الأسد، الذي أقيمت له التماثيل، بعد وفاته بحادث سير عام 1994، في مختلف المدن السورية، ورفعت صوره وأطلق اسمه على الشوارع، لا لشيء إلا لأنه ابن حافظ الأسد، شقيق الرئيس السوري بشار الأسد. والشباب، غير المندسين، والمعروفون لأبناء مناطقهم جيداً، أسقطوا كل المحاذير، فيما يبدو أن اعتقالهم جميعاً مستحيل. ولا بد بالتالي على السلطات المعنية من الاعتراف بأن المحتجين خلقوا واقعا جديدا وانه لا بد من التعامل مع هذا الواقع.

مشروع ثورة
ويشار هنا إلى أن كل مواطن سوري تقريباً بات يتصرف مع نفسه والآخرين باعتباره مشروع ثورة. فالبسطات عادت إلى شوارع المدن بعد أن طرد أصحابها الذين باتوا يتجرأون اليوم على تحدي الأمن بأن يطردهم أو ينهب بسطاتهم ويزجهم في السجون، كما كان يفعل في السابق. والسائقون ينتظرون من شرطي السير إهانة، مثل تلك التي دأب رجال الأمن على فعلها، ليصنعوا فضيحة. والشعب الذي كان مشغولاً بلبنان السياسة والفساد والطائفية، ينشغل اليوم بنفسه.
ما تحقق حتى الآن في سوريا، سواء في الشارع أو على مستوى الحقوق التي أعادتها السلطة للمواطنين، يعتبر بالنسبة لكثير من السوريين إنجازا كبيرا، لأسباب عديدة، أهمها:

أحرار أسقطوا التماثيل
1 ــ لم يعد الثلاثي الأسد «مقدساً». فقد باتت في سوريا أحياء حرة أسقط أهاليها التماثيل.
2 ــ رجال أعمال النظام ــ وأهمهم ابن خال الرئيس الأسد رامي مخلوف ــ أخرجوا من السر إلى العلن، وباتوا مضطرين للدفاع عن النفس، بعدما أصبح هناك ــ وسط الشعب ــ من يفتح عيونه جيداً ليسائلهم عن كل عقد أو تلزيم يحصلون عليه.
3 ــ فهمت السلطة أن اتفاقها مع كبار التجار في دمشق أو حلب وتشييد الفنادق والمنتجعات ومراكز المؤتمرات لا يعفيها أبداً من تحسين أوضاع المزارعين والصناعيين في درعا، كما في القامشلي واللاذقية وبانياس وغيرها من المحافظات السورية، ولا بد من سياسة اقتصادية تحمي الطبقة الوسطى والفقيرة من تحرير السوق والانفتاح الاقتصادي والاحتكار؛ وبالتالي، يجب الحدّ من تخزين العملة الأجنبية في جيوب مجموعة صغيرة من رجال الأعمال، وصرفها على إنماء الريف.
4 ــ تيقنت السلطة أن سحر احتواء الإسلاميين و«تتشتتهم»، باعتبار سوريا محطة مرور إلى الدول المجاورة، سرعان ما سينقلب على الساحر. ويفيد بالتالي الاتعاظ من بعض الدروس الأميركية. مع العلم أن احتضان بعض اجهزة السلطة لبعض المجموعات الإسلامية كان سبباً رئيسياً في توتر العلاقة بين دمشق وعدد من الدول الخليجية.
5 ــ اكتشفت السلطة أن خطاب الممانعة ودعم حركات المقاومة لا يكفيان ولا يشغلان الرأي العام عن استدراك أن السلطة نفسها تقول أشياء كثيرة تخص الصراع العربي ــ الإسرائيلي، وتفعل عكسه.
هذا مع العلم أن المعارضين التقليديين يجمعون على استحالة استمرار الضغط الأمني والعسكري في الأيام المقبلة كما هو اليوم. ورهان هؤلاء كبير على إمكان تنظيم الحالة الشعبية، (التي لا تزال مشتتة نسبيا، فيما كل منطقة تغني موالها)، لتوجيه الحراك بشكل يضمن الاستفادة مما تحقق حتى الآن، وتوظيفه في مصلحة تأمين انتخابات بلدية، وربما نيابية، نزيهة.

وجهتا نظر للمستقبل
يبدو من الواضح أن ثمة وجهتي نظر للمستقبل في سوريا، سواء عند المعارضين للنظام أو عند النظام نفسه. فوسط المعارضين هناك التقليديون الذين يعتقدون أن ما تحقق حتى الآن عظيم ويفترض البناء عليه، لا تهديمه عبر السماح للسلطة بحرف المسار الإصلاحي عن طريقه وأخذه صوب حروب أهلية، كما حصل في لبنان سابقاً، أو صوب تقاتل بين الجيش والشعب كما يحصل اليوم في ليبيا. ويشدد هؤلاء التقليديون على وجوب عدم طمأنة السلطة، أو إشعارها، بأن مرحلة الاحتجاج قد طويت، حتى لا تبدأ الأخيرة بالانتقام من الذين تسببوا في قطع أحلامها بإمكانية الاستمرار بما كانت عليه إلى ما لا نهاية، فتنقلب مجدداً على التعهدات والإجراءات الإصلاحية التي اتخذتها.
في المقابل، هناك، في الشارع، من لا يستطيب العودة إلى المنزل قبل أن يتلمس أن تغييراً جذرياً قد حصل، وأن هذا التغيير ملموس بخطوات إجرائية مباشرة تحد من الحق المعطى لأجهزة الأمن بالتدخل في الحياة العامة، بعد وقف العمل بقانون الطوارئ. وتتراوح وجهات النظر حول هذا المطلب بين من يعتقد أن الوسيلة لتحقيقه تكون بحل السلطة لبعض الأجهزة، ومن يعتقد أن الحل يكون بإقالة جيل أمني فقد ثقة الشعب فيه، وضرورة الإتيان بمن هم على قدرة واستعداد لترميم العلاقة السيئة بين الأمن والمواطن، لما فيه خير المواطن بالطبع.
ويشار هنا إلى أن المحتجين في درعا لم يكتفوا بإقالة مسؤول الأمن السابق، الذي كان وراء اعتقال الأطفال التسعة وتعذيبهم (الحادثة الشرارة التي أطلقت الاحتجاج الدرعاوي)، ولم يكتفوا بسجن هذا المسؤول تمهيداً لمحاكمته، كما لم يكتفوا باستبدال السلطة لثلاثة مسؤولين أمنيين لاحقاً، كان الأهالي قد منعوهم من ممارسة عملهم.

..وللسلطة رأيان أيضاً
وفي حين يخشى المحتجون في الشارع من هرولة بعض المعارضين التقليديين خلف عقد اتفاقيات مع النظام تشبه الصفقات، وتنتهي بحصولهم على حقائب وزارية فارغة، توُهم الرأي العام بان الإصلاح قد تم، فيما تعمد الأجهزة الأمنية، بعيداً عن الأنظار، إلى اعتقال كل من شارك في الثورة المفترضة.
من جهة السلطة، هناك أيضاً وجهتا نظر بشأن مستقبل سوريا. هناك من يعتقد أن حماية السلطة بتشييد الجدران والأسوار في وجه المواطنين لم تعد تنفع في القرن الواحد والعشرين. وبالتالي لا بد من تصالح النظام الأمني مع الشعب وإعادة صياغة علاقة الطرفين. أي، وبكلام أوضح، محاورة المعارضين وتفهم مطالبهم بدلا من قمعهم وابتداع التهم للزج بهم في السجون والمعتقلات. ويبدو أنصار وجهة النظر هذه واثقين بشعبية الرئيس الأسد، وقدرته على حصد تأييد أكثرية السوريين في انتخابات حقيقية حرة.
بالمقابل، هناك وجهة نظر أخرى تردد، منذ بدأت الأزمة، أن أي «تنازل» للسلطة سيتبعه تصعيد من المحتجين يجبر السلطة على تقديم «تنازل» آخر.. حتى تتعرى من كل «مكتسباتها».
ويفترض الأخذ بالاعتبار أن احتمال التنسيق بين وجهتي نظر المعارضين قد يكون كبيراً، تماماً كما يحتمل أن يكون تبادل الأدوار على مستوى رأس النظام مدروساً: فيرسل كل من المعارضة والسلطة مرة محاورا ومرة مشاغبا، في محاولة كل طرف حمل العصي من الوسط لتأمين التوازن الذي يسمح بضمان استمراريته.
في سوريا الجديدة، للشعب يوم في الأسبوع وللسلطة سبعة. ففي كل يوم خميس، تقول السلطة: غداً الجمعة يتحدد المسار والمصير. والجمعة يجر خلفه جمعة آخر. إنها الطريق إلى سوريا الجديدة ــ سوريا بلا تماثيل.

السابق
مكي:اخرجوا هذا الوطن من القلق لتشكلوا حكومة مع بعض التنازلات
التالي
تفاصيل وأسرار جديدة لعملية أبوت أباد