الفرصة الضائعة للسياسة الخارجية الأمريكية

لا يزال الجدل في واشنطن حول من سيخلف أنظمة الحكومات التي سقطت نتيجة الانتفاضات الشعبية في مصر وتونس، مع استمرار تهديد الانتفاضات نفسها بإسقاط أنظمة أخرى، وتسربت إلى صحيفة نيويورك تايمز التقارير السرية الصادرة عن الحكومة الأمريكية بأن يقذف بالرئيس اليمني إلى فك التماسيح الشعبية الغاضبة المحتجة عليه، وأن توكل إلى الـ"سي. آي. إيه" مهمة البحث عن بديل له، بالنسبة للمسؤولين الأمريكيين، فإن الذنب الذي ارتكبه علي عبد الله صالح، لم يكن العنف الوحشي الذي واجه به المحتجين، لأن ذلك لا يزال محتملاً ومغفوراً حتى الآن -مثلما احتملت واشنطن من قبل العنف نفسه الذي مارسه الرئيسان السابقان مبارك وبن علي في مصر وتونس قبل إسقاطهما- وإنما يتلخص ذنبه في عجز هذا العنف عن قمع الانتفاضة الشعبية المطالبة برحيله.

إذاً فإن عجز هؤلاء الطغاة لا يرجع بنظر واشنطن إلى استبدادهم، بل في فشل هذا الاستبداد وعدم قدرته على قمع وردع الانتفاضات الشعبية المطالبة بتغيير حلفاء واشنطن.
وتشير المعلومات السرية المتسربة عن التقرير إلى قناعة واشنطن بعدم جدوى صالح الآن، وكونه لم يعد يصلح في حرب واشنطن على تنظيم "القاعدة" باليمن، مع العلم أن هذه الحرب عادة ما ينظر إليها الكثير من مسؤولي واشنطن على أنها ذات أهمية كبرى في الحرب الأوسع على «الإرهاب».

إضافة إلى ذلك فإن المخاوف التي أثارها ورددها القس المتطرف "تيري جونز" حيث تسبب هذا القس الكاره للإسلام في مصرع ما يزيد عن عشرين أفغانياً مؤخراً إثر إحراقه لنسخ من القرآن، وعلى الرغم مما يبدو من تباعد بين هذه الأحداث، فهي جميعها تشير إلى نوع من الهستيريا السياسية الأمريكية، يتم استغلالها واستثمارها مثلما حدث في فترات سابقة من التاريخ الأمريكي.

وبالرغم من معرفتنا أن الدول الكبرى تحتضن عملاءها ووكلاءها المحليين الذين يخدمون مصالحها الخارجية كما هم، فهي لا تفرض أي نوع من الرقابة على سلوكياتهم وأدائهم إلا بعد أن تكون قد تبنتهم سياسياً أولاً، غير أن تطورات الأحداث التي شهدتها كل من مصر وتونس مؤخراً تشير إلى استعداد واشنطن لإعادة النظر في سياساتها الخارجية القائمة على التعامل مع العالم العربي من خلال الطغاة المدجنين من أمثال صدام، الذين يجب التخلي عنهم واستبدالهم عندما يفقدون القدرة على كونهم أدوات نافعة لخدمة مصالح واشنطن.

وعلى ما يبدو فقد انتشر في الأوساط السياسة الأمريكية، أنه من الممكن أن تكون الحلول السياسية الوطنية المحلية ذات جدوى أكبر من الوصفات السياسية المفتعلة التي تفرض من الخارج على كل من العراق وأفغانستان، باعتبارها بديلاً لديكتاتورية عسكرية، أو لأصولية دينية فرضت نفسها على المجتمعين العراقي والأفغاني.

إلى ذلك، تتنافى الديكتاتورية العسكرية مع جوهر القيم السياسية الأمريكية المفترضة وتعجز عن التصالح معها، بينما يشكل ما يسمى «التطرف الإسلامي» نفوراً ما بعده نفور من كل ما له علاقة بالقيم ونمط الحياة الغربيين. وعليه فقد أثارت الثقافات الإسلامية حساسية وغضب الأمريكيين المتشددين دينياً، بالقدر ذاته الذي أثارت به حساسية التقدميين السياسيين الغربيين المؤيدين للإصلاح، وبسبب هذه الحساسية، فقد وجدت قواسم مشتركة، بين المحافظين الجدد الأمريكيين، ودعاة التدخل الإنساني، سعى فيها كلا الفريقين إلى استحداث شكل جديد من الإسلام المتصالح مع إسرائيل والغرب.

ومهما بلغت هذه الطموحات، لا ريب أن للثورات والانتفاضات الشعبية التي اجتاحت العالم العربي مؤخراً، جذوراً محلية أعمق مما يتصوره صناع القرار الغربي بكثير، فتحت رمادها يرقد التململ الاجتماعي، والظلم الفادح في توزيع الثروات بين المواطنين، ونظم الحكم المتعسفة .

ثم إن حدوداً سياسية مصطنعة، فصلت بين هذه الدول التي نشـأت عقب انحسار نفوذ الإمبراطورية العثمانية في عشرينيات القرن الماضي، ولطالما تجاهل الغرب الحقائق والمصالح العشائرية والتاريخية ونظم الحكم التقليدية القائمة فيها منذ أزمنة بعيدة في التاريخ، والتي يعود بعضها إلى آلاف السنين .

وهنا تنشأ سخرية الاعتقاد بوجود حلول آلية جاهزة لدى واشنطن وحلفائها من الدول الأوروبية لمشاكل الواقع العربي، كما أنه ليس للحضارة الإسلامية أدنى مسؤولية عن جريمة فرض إسرائيل -باعتبارها كياناً غير عربي وغير إسلامي- على أرض عرفت تاريخياً بأنها للفلسطينيين، في محاولة من الغرب فيما يبدو لغسل يديه من دماء جرائم الهولوكوست التي ارتكبها بحق اليهود، وبينما تتسع كراهية العرب لأمريكا بسبب تحالفها الاستراتيجي مع إسرائيل، فقد استمرت نظرة الشارع العربي إلى الأوروبيين باعتبارهم مستعمرين سابقين لدولهم ومنافقين في الوقت الحالي ليس أكثر.

وبغض النظر عن ماهية الأنظمة التي ستعقب الطغاة الذين تطيح بهم الثورات والانتفاضات العربية، فإن أسوأ سيناريو يمكن تصوره، أن تبذل واشنطن مساعي جديدة لإحكام سيطرتها على المنطقة عبر وكلاء سياسيين جدد لخدمة مصالحها، تحت وهم "التحول الديمقراطي" للمنطقة. فتلك هي السياسة الأمريكية التي أشعلت الحروب الإقليمية في كل من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان، إضافة إلى تهديدها بشن حرب جديدة على إيران، ووقوفها وراء التدخل العسكري في ليبيا، لذلك على واشنطن وحلفائها الأوروبيين أن يرتدعوا عن هذا الضلال، بالبحث عن سياسات خارجية أفضل لهما وللعالم.
ترجمة سامر الخيّر – البعث

السابق
يوم صحي في قرى اتحاد بلديات جبل عامل
التالي
السفير الاسباني: أستبعد أي انعكاسات لمقتل بن لادن على الجنوب