الحكومة والقرار الاتهامي… والمنطقة!

في كانون الثاني الفائت، "هَبط" الخبر المنتظر: بلمار قام "أخيرا" بتسليم قراره الاتهامي إلى فرانسين.

الخطوة انتظرها فريق 14 آذار "المجروح" بفارغ الصبر، بحثا عن الحقيقة. وخاف منها "حزب الله" وحلفاؤه… إلى حد التهديد بسيناريو دراماتيكي، امني وسياسي، وجرت ترجمة هذا السيناريو سريعا بـ "الإسقاط الاحتياطي" لحكومة الرئيس سعد الحريري، ثم قلب المعادلة بين الأكثرية والاقلية، من خلال دفع وليد جنبلاط "أمنيا" الى خيار سياسي جديد، وفق اقتناع كثيرين.

ومنذ ذلك الحين، ينام القرار الاتهامي في أدراج قاضي الإجراءات التمهيدية الى حدود تسمح للاعبين محليين وإقليميين بأن ينصرفوا الى مسائلهم الطارئة؛ فـ "حزب الله" منشغل بالدفاع عن نفسه في وجه الحملة التي تستهدف سلاحه، وسوريا منشغلة بنفسها كما لم يسبق لها ذلك، والرئيس المكلف تأليف الحكومة منشغل باستطلاع اللحظة المناسبة لإعلانها.

هاجس الجميع

لكن القرار الاتهامي يبقى لدى الجميع هاجسا أساسيا، لا "حزب الله" يشير عن علم، الى أن أسماء لعناصره واردة فيه، ولا دمشق تستبعد ورود أسماء مسؤولين سوريين، خصوصا في ظِلّ "النسخة المنقحة" التي اتبعها المدعي العام بعد شهرين من تقديمه نسخته الأولى.

القرار الاتهامي ليس مَنسيا، انه في صلب المعادلة، واستحضار الملف القضائي-الأمني في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، من شأنه ان يساهم في الإضاءة على الغموض في ملف الحكومة. فأزمة التأليف ليست مجرد صراع بين الكتل. هذا العنوان يرغب الطباخون في تسويقه. لكنه لم يعد مقنعا. والرأي العام اللبناني ليس أقلّ إدراكا من الرأي العام في تونس، ولا اقل متابعة للمواقع الإلكترونية والفضائيات من الرأي العام في سوريا. وهو لم يعد مستعدا لتصديق المقولات ومواعيد الانتظار لولادة الحكومة، وفق الطريقة التي يتبعها الإعلام الرسمي في معظم دول المنطقة.

تسريب متعمّد

في الخلاصة، النظام في سوريا غير مستقر. والشرق الأوسط بأسره يموج مع الوضع السوري. ولا يمكن ان يرتسم المشهد اللبناني في معزل عَمّا سيَرسو عليه الوضع في سوريا والمنطقة بأسرها. وهذه المعادلة تبرر الانتظار الطويل، ليس فقط لولادة الحكومة، بل أيضا لولادة القرار الاتهامي الذي تعاقبت المواعيد لإصداره في العامين الأخيرين من دون حجة مقنعة، فيما بدا أن معظم مضمونه بات متداولا.

وتعتقد المراجع الحقوقية أن طاقم المحكمة الدولية عَمد الى تسريب مبرمج لمضمون القرار الاتهامي، على مدى اشهر طويلة، بهدف "امتصاص الصدمة"، بدءا بالمقال الذي نشر في "دير شبيغل"، لأن هذا القرار كان من شأنه أن يفجّر الوضع في لبنان لو صدر فجأة وعمد إلى تسمية عناصر من "حزب الله"، او ربما مسؤولين من دول أخرى كسوريا وايران. ولم يكن هناك شك في حصول ذلك، لأن "الحزب" هدّد عَلنا بما هو اكبر من 7 أيار و"بقطع كل يَد تمتد الى عناصر من المقاومة". ولذلك، فضّل المعنيون في المحكمة أن يدفعوا بالقرار الاتهامي تدريجا الى الإعلام، في شكل غير مباشر، لأن من مسؤولية المحكمة، ليس فقط تسمية المتهمين، بل ايضا خلق أجواء تسمح بجلب المتهمين وقيام محاكمة سليمة.

وهذا ما لا يمكن أن يتحقق في حال وقوع فوضى شاملة في لبنان.

"النسخة الموسّعة"

"حزب الله"، وعشية تسليم المدعي العام دانيال بلمار قراره الاتهامي الى القاضي فرانسين لدراسته وإعلانه، سارع الى خطوة بديلة من 7 ايار. استعان بـ "الاحتياطي" المحسوب على رئيس الجمهورية، الوزير عدنان السيّد حسين، واسقط حكومة الحريري. ومنذ 17 كانون الثاني، ما زال القرار الاتهامي في حوزة فرانسين، ولا يعلنه. وقد اعلن مسؤولون في المحكمة يومذاك، ان إعلان هذا القرار رسميا على الموقع الإلكتروني للمحكمة الدولية، كاملا او جزئيا، يحتاج الى اسابيع، وربما الى شهرين.

ولكن، ومع مرور الشهرين، قام بلمار باستخدام حقه المنصوص عليه في المادة 71 من قواعد الإجراءات والاثبات للمحكمة الدولية، والذي يسمح له بإعداد اكثر من قرار اتهامي، وان يقوم بتزويد المحكمة الدولية بهذه القرارات في اي وقت، ومن دون الحصول على اذن مسبق لذلك.

القاضي فرانسين تلقّى في 11 آذار الفائت قرارا اتهاميا معدلا، تقول المصادر الحقوقية إن ما رشَح منه يؤشر الى توسيع في دائرة الاتهام. ولم يعرف ما إذا كان ذلك يقتصر على أطراف لبنانيين، أم يتعدى ذلك الى آخرين في دول اخرى في المنطقة. وهذا يعني تلميحا مسؤولين في سوريا وايران.

وبعدما كانت المواعيد التي جرى رَميها حتى اليوم، تؤشر الى احتمال الانطلاق في المحاكمات مطلع الصيف المقبل، اي في حزيران، فإنّ تأخر صدور القرار الاتهامي بات يدفع بهذا الموعد الى ايلول، وفقا لبعض المصادر.

القرار وحكومة ميقاتي

إنّ القراءة الأساسية لتأخير صدور القرار الاتهامي توحي بالآتي:

1- إذا كانت المحكمة الدولية تحرص على إصدار قرار اتهامي شفّاف وبعيد عن التسييس، وأن يؤسس لمحاكمة عادلة و"معنيّة"، فإن ذلك لا يعني أن مواعيد إصدار القرار الاتهامي وبدء المحاكمات يجب ألا تأخذ العوامل السياسية في الاعتبار. ولا يمكن مثلا "رَمي" قرار اتهامي بالغ الخطورة في ساحة ملتهبة، وبعد ذلك، البحث عن سبيل لإطفاء النار وإتاحة المجال لبدء المحاكمات في شكل طبيعي. فالمحكمة الدولية تنتظر اليوم وجود حكومة قادرة على توَلّي مسؤولية جلب الشهود، وما يستتبعه من خطوات إدارية وقضائية وأمنية، فيما الرئيس نجيب ميقاتي محاصر بالعراقيل التي تحول دون تأليفه للحكومة، لأسباب عديدة، ومنها المحكمة الدولية التي من اجلها سقطت حكومة الحريري، وتمّ تكليفه تأليف الحكومة الجديدة. ويدرك ميقاتي ان المستحيل يكمُن في أنه لا يمكنه أن يترأس حكومة تواجه المحكمة الدولية والمجتمع الدولي.

النظام ومسؤولوه

2 – أدّت الاهتزازات الاقليمية الى خلق معطيات جديدة في ملف اغتيال الرئيس الحريري. ففيما أصابع الاتهام كانت موجهة الى مسؤولين في دمشق في مراحل مختلفة، بات هذا الاتهام اليوم يكتسب أهمية خاصة، لانه ارتبط في مَدى الاهتمام الدولي بمستقبل الوضع في سوريا ومصير نظامها. وفي الساعات الاخيرة، بدأت واشنطن وحليفاتها الاوروبيات تدرس فرض عقوبات على مسؤولين في هذا النظام. وهؤلاء المسؤولون ترددت أسماء بعضهم في ملف الحريري. وستكون خطوة تسمية بعضهم حاسمة في تقرير مستقبل النظام واستقراره.

3 – لا دلائل تشير الى ان السلطة اللبنانية قادرة على "خَرق" الحصن الأمني، على رغم "العضلات" التي أظهرتها القوى الامنية في التصدّي لملف مخالفات البناء في الضاحية وبعض الجنوب. وهذا ينطبق على جَلب المتهمين والإجراءات المنتظرة في موضوع المحاكمات. ومن خلال نشر وثائق "ويكيليكس" والتصريحات والخطب المباشرة، يَشنّ "حزب الله" حربا للحؤول دون المَس بـ "مَناعة" وضعه الأمني. هذه "المناعة" التي وفّرت له حتى اليوم تحقيق أهدافه السياسية وغير السياسية، ولا سيما لجهة قلب معادلة الأكثرية ضد فريق 14 آذار. وهذا ما دفع وليد جنبلاط عند استكمال استدارته السياسية، في ايلول الفائت، الى المطالبة بـ "التخَلّي" عن القرار الاتهامي والمحكمة الدولية، وترك الحقيقة للتاريخ!

المشهد يتغير… كما أبطاله

إنّ القرار الاتهامي ومجمل ملف اغتيال الرئيس الحريري والاغتيالات ومحاولات الاغتيال اللاحقة، أصبحت جزءا من مصير المنطقة. فهذه الاغتيالات هي أساسا ترجمة لصراع الأنظمة. واليوم، تبدو هذه الأنظمة في موقع الدفاع عن النفس، وبعضها أفَل نجمه وبعضها الآخر يفتش عن حلول لأزماته.

ولذلك، سيأتي القرار الاتهامي والمحاكمات الى مشهد يتغير بسرعة هو وأبطاله وخرائطه وتحالفاته. وليس واضحا مَن سيسبق مَن؟ او مَن ينتظر مَن؟ فهل سوريا ونظامها ينتظران المحكمة، أم ان المحكمة تنتظر سوريا ونظامها؟

وبين هذه وتلك، نلاحظ أنّ اللاعبين المحليين جميعا في لبنان، هُم في شَلل تام.

السابق
مخالفات البناء مستمرة هذه الليلة على طريق المطار
التالي
أحداث المنطقة دليل فشل سياسة أميركا