كي لا يسقط “النظام الطائفي” في أحضان الطائفيين

تثير الحملة لإسقاط النظام الطائفي إشكالين ينبغي إمعان النظر فيهما لتجنيبها ما اعتور حملات سابقة لم تفلح في الوصول الى مبتغاها، ولتتناغم مع قواها الجديدة المندفعة والمخلصة في ما تريد، والناشطة على وقع الاحتجاجات العربية.
وأول هذين الإشكالين الالتباس في شعار الحملة: "إسقاط النظام الطائفي"، فهل النظام الطائفي هو البنية الطائفية للمجتمع اللبناني؟ أم هو النظام الاجتماعي الذي يرعى العلاقات المجتمعية، زواجاً وإرثاً، ويراعي مواقع للمؤسسات الدينية ولرجال الدين ومواقفاً… وما إلى ذلك؟

أم هو النظام السياسي الذي تلحظ نصوصه مراعاة لتوزيع المواقع السياسية ووظائف الفئة الأولى على الطوائف؟ أم هو النظام السياسي في ممارسات قواه الفاعلة التي تتجاوز النصوص الطائفية إلى درجة استباحتها للدستور والقوانين من أعلى مؤسسة دستورية الى أصغر دائرة في أقل الوزارات، خدمات وتنفيعات؟
أم هو ممارسات هذه القوى المستبيحة للقانون في المجالات الأخرى مستقوية بموقع كل منها الفاعل في طائفته؟ أم هي المسارب الوافدة من الخارج والحامية للقوى الطائفية، سياسية وغير سياسية، وانتظامها؟
ويمكن القول إنّ النظام الطائفي بمعنى البنية الطائفية للمجتمع اللبناني غير مطروح للإسقاط لتعذر ذلك ولمجافاته للمنطق الديموقراطي؛ فالطوائف، كوجود مجتمعي، عميقة الجذور في لبنان ومغذاة بتدخلات خارجية خلال قرنين من الزمن، الأمر الذي يجعل طرح إسقاطها كشعار لحملة صعبا، كما أن المنطق الديموقراطي يفترض عدم طمس وجود الأقليات، لا بل يطالب مفكرو اتجاهات ما بعد الحداثة ومناضلوها بالدفاع عن الفئات الهامشية في المجتمعات كأولوية ديموقراطية.
وإسقاط هذه البنية صيرورة تاريخية طويلة المدى، يختلط فيها الاقتصادي بالاجتماعي والثقافي…
والنظام الطائفي بمعنى العلاقات المجتمعية ساقط بالضرورة، لتزايد أعداد الزيجات المختلطة بين الطوائف ولهامشية الدور الذي يلعبه رجال الدين في السياسة، قياساً بدور قادة هذه الطوائف الفاعل والموجه لهؤلاء، ولهامشية هذا النظام في سلم الأولويات التي يعاني منها اللبنانيون.

وبرغم أهمية مفاعيل غياب قانون موحد للأحوال الشخصية وأضرارها على الزيجات، المختلطة وغير المختلطة، وأهمية مفاعيل المؤسسات التعليمية الطائفية وإضرارها في التربية الوطنية وخطورة التهييج الطائفي الذي ينفذه رجال الدين فإنها لا ترقى الى صلب القضية في النظام الطائفي، في هذه المرحلة.

يبقى النظام الطائفي بالمعنى السياسي، وهنا القضية، فهل النصوص الراعية للطائفية هي المطروحة للإسقاط، أم ممارسات زعماء الطوائف، فرادى وجماعات، المتجاوزة لما أعطى الدستور والقوانين للطوائف والناقضة للقوانين كافة في ممارساتها الخادمة لمصالحها ولذوي القربى، بالدم أو بالولاء، بحماية الغيرة على الطائفة.

إنّ هذا الالتباس في شعار الحملة جدَّد ما سبق أن تعرضت له حملات مماثلة لقوى تغييرية، إذ دخلت القوى الطائفية المهيمنة في الحملة وعليها مستخدمة العدة التقليدية؛ إذ أثارت القوى الطائفية ذات الثقل الإسلامي طرح إلغاء الطائفية السياسية واندفعت، بحماسة، للمشاركة ضمن هذا الطرح الذي يُفسر بتكريس الغلبة العددية للطوائف الإسلامية في النظام السياسي وإضعاف الحضور المسيحي، وأثارت القوى الطائفية ذات الثقل المسيحي طرح العلمنة الشاملة الذي يفسر بفصل الدين عن الدولة والزواج المدني وما الى ذلك، وهذا مايثير حفيظة القوى الاسلامية. وهذا يعني انّ الحملة دخلت، بدون وعي القوى الجديدة فيها، أو أُدخلت، في ثنائية الاستقطاب الطائفي وقد تصبح قضية من قضاياه .

الإشكالية الثانية هي مدى برنامجية الشعار، بمعنى إمكانية التحقق في اللحظة الراهنة، فهل تستطيع الحملة إسقاط النظام بكل المعاني المطروحة، وإن لم يكن ذاك ممكناً، فأي المعاني هو المطلوب إسقاطه؟
وهل هذا الشعار هو الأكثر إلحاحاً في حاجات الفئات اللبنانية، وبأي معنى من معانيه؟ وأي الفئات المجتمعية ذات مصلحة في تحقيق الهدف لتشكل حاملاً مجتمعياً له وتتشكل على أساسه قوى ضاغطة وفاعلة؟
ومن هو الخصم المطلوب اسقاطه: الرئاسة ام مجلس الوزراء ام مجلس النواب ام رجال الدين ام زعماء الطوائف او هؤلاء كلهم وكيف؟ او انّ الخصم هو النصوص الطائفية، ولا حامل مجتمعيا لها ولا مدافع عنها؟
إن الالتباس في الشعار دفع المشاركين فيه والناظرين إليه إلى وضع كل من ينتقدون الفئة الحاكمة، بتنوعاتها المتعددة، ضمنه، والشامل ما ذكر من معاني يحتملها الشعار وما يمكن أن يضاف إليها من محاربة الفساد إلى العجز في الموازنة وأعباء الدين العام وإنماء المناطق وتحقيق العدالة الاجتماعية وما إلى ذلك. فأصبح الشعار كشكولاً يعبّر عن اعتراضات أكثر منه هدفاً لحملة سياسية تبغي الوصول إلى نتيجة.
ومع أهمية النقد الذي يوجه للفئة الحاكمة وقواها الطائفية، وهو صحيح، وجدارة حمل المطالب التي يمكن أن يضاف إليه الكثير وصولاً إلى تأمين الماء والكهرباء وتنظيم السير، وهي بديهيات عمل أي نظام ليكون نظاماً، فإن طرحها، كلها، أتاح التباس الشعار ذلك، بجعله طرحاً غير برنامجي، بمعنى إمكانية القوى الحاملة للشعار تحقيقه في مدى زمني قصير ومحدد.

ولا يمكن المقارنة بالاحتجاجات ثم الانتفاضات العربية، وبخاصة في تونس ومصر، فقد رفعت شعاراً جامعاً ويمكن التحقق: إسقاط النظام وعنوا به إسقاط نظام الرئيس (الرئيس وحاشيته).
وتقود هاتان الإشكاليتان في الشعار إلى إعادة التفكير في الشعار بما يخرجه من دائرة التقاذف الطائفي إلى دائرة مواجهة الطائفيين وطرح شعار يحمل هدفاً ممكن التحقق.
ولا تحمل الدعوة لإعادة التفكير تأجيلاً للتحرك أو هروباً من الطرح أو خروجاً عن موجة الاحتجاجات السائدة، عربياً، بل هو ولوج سليم في لب القضية، إذ هذا التحرك، على أهميته وحيوية الفاعلين فيه، قد سبقته تحركات قد تعود الى لحظة قيام الكيان اللبناني (1920) مروراً بالاستقلال ووصولاً إلى مرحلة صعود القوى التغييرية في الستينات والسبعينات، التي انتهت الى نتيجتين أو النتيجتين معاً.

– دخول الحملة في أتون الاستقطاب الطائفي بين العلمنة الشاملة وإلغاء الطائفية السياسية دخولا اراده الطائفيون واتفقوا عليه .
– إحباط التغييرين، قوى وأفراداً وجمهوراً.
وإعادة التفكير ليست عملية نخبوية، مع أهمية وجود نخبة في أي حراك، ولا هي عملية منعزلة عن الحراك الجماهيري، بل هي، أو هكذا يفترض، في صلب تحرك المجموعات الجديدة المتحركة في الحملة وهي ارهاصات نخبة إما أن تندفع في اتجاه تشكيل وعيها لقضيتها أو أن تنـزلق إلى حراك شعبوي، دون هذا التشكل، يضع الحملة في أتون الصراع الطائفي ويضع المخلصين والصادقين فيها في البيت.
قد تكون إقامة حلقات نقاشية بين الناشطين في العاصمة والمناطق وبين الأفراد والمجموعات، وبين الجيل الجديد والأجيال القديمة، مدخلاً لبلورة وعي غير طائفي وشعاراً برنامجياً يمكن أن يحدد الحامل المجتمعي له ويحرك الجماهير من أجله.
وقد يكون شعار تطبيق القانون شعاراً مرحلياً، مدخلاً لبلورة وعي سياسي لا طائفي ورافعة لبناء حامل مجتمعي فاعل.

فالقانون، دستوراً وقوانين وأنظمة، على علاته الطائفية هو أرقى من اللاقانون (شريعة الغاب) السائدة، وغياب القانون أو التفلت منه هو المشكو منه، لا علاته الطائفية على خطورتها.
فمراعاة التمثيل الطائفي في التمثيل البرلماني مأخذ كبير، إلا أن تحول النائب الى ناطق باسم طائفته ومعقب معاملات لمناصريه هو المأخذ الأخطر الذي يخالف الدستور نفسه. حيث أن النائب ممثل الأمة ودوره هو التشريع ومراقبة السلطة التنفيذية.
ومراعاة التمثيل الطائفي في تشكيل الوزارات مأخذ كبير، إلا أن تحول مجلس الوزراء إلى إطار يغطي القرارات المتخذة خارجه واستبداله، في القضايا المهمة، بلجنة حوار وطني، وتصرف كل وزير على أنه "حكومة" قائمة بذاته مرجعها مرجعيته الطائفية لا مجلس الوزراء هو المأخذ الأكثر خطورة على حياة الناس، وهو مأخذ مخالف للدستور جملة ومفرقاً.

ومراعاة الطائفية في موظفي الفئة الأولى مأخذ، إلا أن المأخذ الأخطر، على هذا المستوى، هو اعتبار هذا الموظف ممثلاً لطائفته في ممارسته في إدارة شؤون الجهاز الإداري ومرجعيته مرجعية طائفته لا وزيره، وهو شمول هذا المراعاة كل الفئات الوظيفية.
وكذا يمكن القول عن أمثلة كثيرة متجاوزة للقانون في ممارسات الوزراء والموظفين الكبار تُغطى بحماية المرجعيات السياسية لكل منهم، وبتسوية بين هذه المرجعيات، "حكّلي تحكّلك”.
ويمكن هذا الشعار المرحلي أن يخرج الحملة من الاستغلال الطائفي إذ هو محرج لكل القوى الطائفية، ويمايز ضمن كل طائفة بين المستفيدين من الزعماء والموالين لهم والجمهور الواسع المتضرر من ذلك، الأمر الذي لا يستفز هذا الجمهور في شعوره الأقلوي أو في معتقداته الدينية ويمكّن حاملي هذا الشعار والعاملين له من استقطاب هذا الجمهور الواسع في كل الطوائف.

كما يمكن هذا الشعار أن يكون مدخلاً لإسقاط النظام السياسي الطائفي، وهو شعار لا طائفي بامتياز، إذ لا يمكن الانتقال من "النظام القائم" الذي ينحو لأن يكون لا نظام إلى نظام سياسي مدني بدون بناء دولة القانون، ثقافة وممارسة.
كما يمكن هذا الشعار ان يكون موضوعا لتحركات جماهيرية في القطاعات كلها، كما على مستوى البلد، تستهدف القوى الطائفية كافة دون لبس وغموض.

السابق
حـل العقـدة الحكوميـة بالمستقلّيـن وبالشبـاب
التالي
بلدية صور: مشكلة النفايات تتفاقم