الثـورات العربيـة تنعكـس ركـوداً علـى الاقتصـاد اللبنانـي

في وقت تنتشر «عدوى» الثورات من بلد عربي إلى آخر، يبقى لبنان من دون حكومة. وبينما يبدو غير متأثر سياسياً، بشكل مباشر، بما يحدث حوله، فإن الثورات وتبعاتها الاقتصادية، سواء في المشرق أم في المغرب العربيين، لا بدّ من أن تلقي بثقلها على البلد الذي لم يتحضرّ لا لردع سلبياتها ولا للاستفادة من انعكاساتها.

حين انطلقت الثورة في تونس وبعدها في مصر، ظنّ عدد من اللبنانيين أن الأزمة في البلدين ستعود بالفائدة على لبنان سياحياً، متأملين بتهافت أفواج من السيّاح سيعدلون برامجهم ويستبدلون الشاطئ التونسي وشرم الشيخ بمنتجعات لبنان وفنادقه. إلا أن تلك الآمال سرعان ما تبدّدت مع اشتعال الثورات من المحيط إلى الخليج، وازدادت مع بدء الاحتجاجات في سوريا. وقد انقلبت الآمال إلى مخاوف لا سيما مع ما تشهده الدول الخليجية من مشكلات داخلية، على أساس أنه لا مفرّ من تأثر أعمال الجالية اللبنانية العاملة في الخليج، فتتأثر بالتالي تحويلاتها إلى لبنان.

وبعيداً عن الآمال والهواجس، يرى كل من الباحث الاقتصادي الدكتور لويس حبيقة، وكبير الاقتصاديين في مجموعة «بنك بيبلوس» نسيب غبريل، أنه ستكون للثورات المحيطة آثار مباشرة على الاقتصاد اللبناني، وقد بدأت أولى نتائجها السلبية تظهر، لا سيما على القطاع السياحي . فـ»منذ إطلاق العام 2011 وحتى نيسان الحالي، تراجعت المداخيل السياحية بنسبة 53 في المئة» بحسب نقيب أصحاب الفنادق والمطاعم بيار الأشقر . بينما تعاني الفنادق من تراجع في الحجوزات لموسم الصيف.
يشير حبيقة إلى أن لبنان لم يعد «جزيرة» في محيطه العربي، كما كان في السبعينيات جزيرة اقتصادية في محيط من الأنظمة الاقتصادية الاشتراكية. وبالتالي، بات يتأثر بشكل مباشر بكل ما يدور في المنطقة العربية، التي أضحت بفعل العولمة منطقة واحدة.

ويؤكد حبيقة أن السياحة هي آخر اهتمامات العرب اليوم، كما أن الأوروبيين والأميركيين لن يستبدلوا الدول العربية الأخرى بلبنان «فهم ينظرون إلى المنطقة العربية ككل، ويعتبرون أن محيط لبنان غير آمن وداخله غير مستقرّ لا سيما بعد خطف الأستونيين السبعة»، والأحداث الأمنية الأخيرة، واستمرار الفشل في تشكيل حكومة بعد أكثر من شهرين على تكليف الرئيس نجيب ميقاتي.
إلى ذلك، يؤكد غبريل أن عدد السيّاح إلى لبنان انخفض بنسبة 13 في المئة في الشهرين الأولين من العام 2011، وفي الوقت نفسه، انخفضت نسبة إشغال الفنادق بنسبة 37 في المئة.
وبرأيه، لم يقم لبنان بأي خطوات فعّالة لجعل السيّاح الأجانب يستبدلون وجهاتهم السياحية العربية بشواطئه ومنتجعاته السياحية، فاستبدل هؤلاء الدول العربية بتركيا وبعض بلدان جنوبي أوروبا.
يضيف غبريل أن «اقتصادنا غير مهيأ لا لجذب السيّاح ولا الاستثمارات الهاربة من الدول العربية»، موضحاً أن الشركات المتعددة الجنسيات التي قرّرت نقل مكاتبها من دول الثورات لم تختر لبنان كموقع جديد لها «بسبب تردي بناه التحتية، من كهرباء واتصالات وإنترنت، وصولاً إلى أسعار العقارات المرتفعة جداً».

هكذا، بدت دبي الإمارة الأكثر استفادة من الواقع العربي الحالي، «فهناك أسعار العقارات أوفر، والبنى التحتية مجهّزة، بالإضافة إلى الاستقرار السياسي الذي تنعم به الإمارة» بحسب غبريل.
مثله، يؤكد حبيقة أن لا استثمارات جديدة في لبنان، متوقعاً أن تشهد تلك التي انطلقت قبل الثورات، لا سيما تلك الآتية من البلاد العربية، عقبات قريباً.

ومن المتوقّع أن يتأثر القطاع التجاري بمقدار القطاع السياحي، أولاً لجهة الصادرات، إذ تشكل مصر سادس أكبر سوق للصادرات اللبنانية والتي تصل قيمتها إلى مئتي مليون دولار، بحسب غبريل الذي يشير إلى أن عمل شركات لبنانية كثيرة أنشأت فروعاً لها في دول المغرب العربي، لا بدّ من أن يتأثر سلباً، تماماً كما تأثر عمل بعض المصارف اللبنانية هناك، من دون أن يؤثر ذلك على أدائها عامة.

ويلفت حبيقة إلى أن قطاع النفط، «كيفما تأثر وضعه في البلدان العربية التي تصّدره، فلا شكّ في أنه سيؤثر على لبنان وتحديداً على ميزان المدفوعات، تماماً كما سيتأثر ميزان الواردات».
وهو يتوقع أن ينخفض النمو بشكل أساسي، إذ سترتفع نسبة الإنفاق فيما الإيرادات تتقلّص، ما يعني أن العجز والدين سيزيدان.

ويختلف الخبيران الاقتصاديان حول مدى تأثر تحويلات المغتربين إلى لبنان بالأزمات العربية. ويعتبر حبيقة أن حجم التحويلات الذي وصل إلى حدود سبعة أو ثمانية مليارات دولار سينخفض، لا سيما إن شهدنا خسارة لبنانيين لوظائفهم بفعل الأزمات.
في المقابل، يرى غبريل أنه حتى الساعة، لم يخسر أي من اللبنانيين وظائفهم في دول الخليج، وبالتالي لم نشهد انخفاضاً في التحويلات إلى لبنان، معتبراً أن عدم الاستقرار غالباً ما يؤدي إلى زيادة في التحويلات.
إلا أنه لا ينفي، في الوقت ذاته، أن الواقع اللبناني يشهد امتحاناً لهذه التحويلات، شارحاً أن حكومات دول الخليج تضخّ أموالاً في أسواقها لإنماء اقتصاداتها، وقد أضحى لمعظمها مشاريع أعلنت عنها مؤخراً مثل قطر والكويت.
وقد ساعد ضخّ الأموال في إعادة الثقة بالاقتصاد وعودة الاستثمارات والبورصات إلى الارتفاع من الجديد. ويعدّل إنفاق تلك الأموال ارتفاع إيرادات النفط بعد ارتفاع أسعاره، ما يعني أن موازنات الدول الخليجية لم تتأثر.
ويلفت غبريل إلى أنه خلال الأزمة المالية العالمية، تأثر القطاع المالي في البلدان العربية وتراجعت البورصات وتشكل نوع من الركود الاقتصادي، «لكنّ التحويلات اللبنانية لم تتأثر سلباً، بل على العكس زادت لأن اللبنانيين لم يعودوا بالألوف إلى لبنان وتوجّه من خسر وظيفته إلى العمل في دول عربية أخرى».

يومها، كانت الدول العربية غير مستقرة ولبنان يشهد استقراراً بفعل الثقة المرتفعة بالقطاع المصرفي كما بفعل اتفاق الدوحة. ويخلص غبريل إلى أن الوضع ضبابي اليوم في لبنان، وهي المرة الأولى التي نشهد عدم وضوح سياسي في لبنان مصحوباً بعدم استقرار في الدول المحيطة.

إلى ذلك، يتوقّع حبيقة أن يخسر لبنان في نسبة الودائع، لا سيما أن يتمّ تحويل ودائع كثيرة إلى أوروبا، من دون أن تحوّل إلينا ودائع جديدة.
ويشرح غبريل أن الشهرين الأولين من السنة الحالية لم يشهدا تراجعاً في نسبة الودائع لكنهما لم يشهدا أيضاً أي ارتفاع، موضحاً أن العائلات الخليجية تقوم بتهريب أموالها من الخليج إلى أوروبا وليس إلى لبنان.
وهو يضيف أنه بحسب مؤشر خاص بـ «بنك بيبلوس»، فقد تراجعت ثقة المستهلك بالأسواق المحلية، وهو مؤشر يؤدي دوراً رئيساً في الجمود الاقتصادي.
كذلك، يشير حبيقة إلى تراجع الطلب على العقارات، لكنه يرى في ذلك عاملاً إيجابياً بالنسبة للمواطن اللبناني.

واقع الاقتصاد اللبناني: هدر وفساد
بعيداً عن تأثيرات الثورات العربية، ما هو واقع الاقتصاد اللبناني؟
يشير الباحث الاقتصادي الدكتور غازي وزني إلى أن اقتصاد لبنان يعتمد على القطاع المصرفي والقطاعين العقاري والسياحي، أي أنه يعتمد بنموه على الاستهلاك بالدرجة الأولى، ثم على الاستثمار العقاري وبعدها على الصادرات. كل ذلك، من دون إغفال أن تحويلات المغتربين من الخارج تشكل ركيزة للاقتصاد، وقد بلغت في العام 2010 ثمانية مليارات ومئتي مليون دولار ليحتل لبنان المرتبة الأولى في المنطقة.
وبحسب البنك الدولي، يشكل الهدر في لبنان بين خمسة وستة في المئة من الناتج المحلي سنوياً، وهو رقم مرتفع جداً كما يقول وزني «وقد فاق، خلال السنوات العشر الأخيرة، 15 مليار دولار، أي ما يوازي ثلاثين في المئة من الدين العام».
بموازاة ذلك، يلفت غبريل إلى أن لبنان حصل على المركز 127 من أصل 178 دولة، والمركز 13 بين عشرين بلداً عربياً، بحسب «مؤشر الفساد العالمي»، لاحظاً أن المؤشر أظهر تونس ومصر أقلّ فساداً. كما يحتل لبنان المركز 12 قياساً لـ»مؤشر التنافسية الاقتصادية» وذلك بين 15 دولة عربية، فيما يحتل المركز 92 عالمياً.

ويفنّد وزني عناصر الهدر داخل الموازنة العامة والخزينة، فيرى أنها تظهر بوضوح في النفقات الاستثمارية، لجهة التعهدات والالتزامات التي تتم بالتراضي، أو عبر زيادة حجم النفقات الاستثمارية، على غرار ما حصل في مشروع موازنة 2010، «حيث بدت النفقات الاستثمارية فضفاضة و»انفلاشية» متجاوزة الملياري دولار، مع العلم بأن لا قدرة للوزارات على استيعاب هذا الحجم الكبير من الأموال».
كما يظهر الهدر، بحسب وزني، في المشتريات العامة بحيث يتحكم «كارتل» خاص بأسعار النفط، كما تغيب المنافسة في قطاع الأدوية. ويستشري كذلك في المجالس والهيئات والصناديق التي أسستها الدولة ومنها، «الهيئة العليا للإغاثة» التي حصلت منذ حرب تموز على أكثر من ألف مليار ليرة، لا يخضع جزء كبير منها لهيئات الرقابة البرلمانية والقضائية، «ناهيك عن العقود غير الواضحة».
كذلك يلحظ وزني الهدر على صعيد النفقات العامة من خارج الموازنة العامة والخزينة، ويظهر ذلك من خلال الهبات والقروض التي حصل عليها لبنان في حرب تموز و»باريس 3»، والتي تقدّر بمليارات الدولارات، من دون الإفصاح بوضوح وشفافية عن وجهة استخدامها.

كما يخسر لبنان حوالى مليار ومئتي مليون دولار لعدم إقراره ضريبة على التحسين العقاري، وبين 150 و300 مليون دولار لعدم إدراج الضريبة الموحدة على المداخيل. ويتجلى الهدر في الإيرادات بسبب التلاعب وعدم التصريح الصحيح في الجباية الضرائبية، لا سيما في الدوائر العقارية التي تسببت في خسارة الدولة أكثر من مئتي مليون دولار، بفعل مبيعات تجاوزت قيمتها 30 مليار دولار، ومصرحة بقيمة تقل عن قيمتها الفعلية بنسبة 20 في المئة، وذلك في الفترة الممتدة بين العامين 2007 و2010.
بناء عليه ينصح الاقتصاديون، حبيقة ووزني وغبريل، بتفعيل دور هيئات الرقابة وتحصيل الإيرادات بشكل جدي، وإيلاء القطاع الصناعي والزراعي اهتماماً أكبر للتعويض عن الخسارة في القطاع السياحي و
الخدماتي، بالإضافة إلى تحسين البنى التحتية.

السابق
ألبسة إسرائيلية منذ فترة الاحتلال
التالي
السرقات في بنت جبيل ومرجعيون..إلى ارتفاع