إسرائيل على الجانب الخاطئ من التاريخ

إن واحدة من أهم العبارات التي برزت في خطابات /باراك أوباما/ على مدى العامين الماضيين، ووردت في خطابه الموجه للعالم العربي والإسلامي الذي ألقاه في القاهرة في الأيام الأولى من ولايته، عندما حذر "الأمم بألا تضع نفسها على الجانب الخاطئ من التاريخ". ويبدو أن الدول العربية أخذت تلتفت لهذه النصيحة أكثر مما كان متوقعاً، ففي الأشهر الماضية قفزت من الجانب الخاطئ إلى الجانب الصحيح من التاريخ. ولكن يا لها من قفزة!!!
ورغم ذلك، تتحرك حكومة الاحتلال الإسرائيلي في الات
جاه المعاكس وهي مصممة على ما يبدو على الذهاب بعيداً عن الجانب الصحيح بقدر ما يمكن،لتضع نفسها على سكة طريق مسدود، خلال الفترة الماضية جرت محادثة هاتفية بين /بنيامين نتنياهو/ والمستشارة الألمانية /أنجيلا ميركل/ قام فيها نتنياهو بتوبيخ ميركل على قيامها بالتصويت لصالح قرار مجلس الأمن بإدانة المستوطنات، القرار الذي حُجب بالفيتو الأمريكي، نحن لا نعرف إذا كان نتنياهو قد ذكر المحرقة، ولكن بالتأكيد أعرب عن انزعاجه من جرأة ألمانيا على التصويت ضد "دولة اليهود". لكنه صُدم بالجواب، فقد قالت له بأنه قد أخلف وعوده ولم يعد أحد من قادة العالم يصدق ولو كلمة واحدة منه بعد الآن، وطالبته بصنع السلام مع الفلسطينيين.

هذا الحوار هو جزء فقط من عملية مستمرة وهي تدهور بطيء ولكنه ثابت في مكانة إسرائيل الدولية. ولكن هذا يسمى في إسرائيل"الشرعنة الدولية في إطار مؤامرة شريرة”، وليس على غرار بروتوكولات حكماء صهيون!! وهنا الاستنتاج واضح:إن أعداء إسرائيل في جميع أنحاء العالم-بما في ذلك الطابور الخامس في إسرائيل نفسها-يخططون لتدمير إسرائيل بجميع أنواع المقاطعة.

إن قادة إسرائيل يظنون بأنهم يعرفون كيف يعرقلون هذه المؤامرة عن طريق سن القوانين، وأنه ستتم معاقبة كل من يقوم بتزويد أعداء إسرائيل بقائمة المشاريع الموجودة في المستوطنات، وبأن أي شخص يدعو لمقاطعة إسرائيل أو إدانة المستوطنات، في نظر المشرعين الإسرائيليين، سوف يضطر لدفع غرامات وتعويضات خيالية، الملايين من الدولارات. وإذا لم ينفع كل هذا، سيتم إرسال أعداء الحكومة الإسرائيلية إلى السجن، كما حدث بالفعل مع ناشط السلام جوناثان بولاك.
في الواقع تتراجع مكانة إسرائيل باستمرار،لأنهم على الجانب الخاطئ من التاريخ، وقد حافظت إسرائيل على مدى عقود على نظام احتلالها، وتستمر بانتهاك صارخ لحقوق الشعب الفلسطيني وإذلاله.
عملياً، لازالت إسرائيل تعيش على أفكار وعقلية القرن التاسع عشر، بينما بدأ باقي العالم بالعيش في القرن الواحد والعشرين، فالسياسة الإسرائيلية ببساطة تنطوي على مفارقة تاريخية. وسيشهد القرن الواحد والعشرون اندماج أمم مع بعضها وسنرى بداية نظام عالمي جديد،وليس لدينا أي شك في أن تتحقق هذه الفكرة.

هذه ليست رؤية المثاليين الحالمة، بل ضرورة أساسية للجنس البشري وجميع الشعوب والأمم. ويواجه العالم الآن مشاكل لا يمكن لدولة واحدة أو مجموعة دول أن تحلها من تلقاء نفسها. فهناك ظاهرة الاحتباس الحراري، الذي يهدد وجود الجنس البشري، هي بطبيعتها مشكلة العالم. ومن جهتها أظهرت الأزمة الاقتصادية الأخيرة أن انهيار اقتصاد بلد واحد فقط بإمكانه أن ينتشر كالنار بسرعة إلى باقي دول العالم بأسره. لقد أُنشىء على شبكة الانترنت مجتمع عالمي، تنتشر فيه الأفكار بسهولة من بلد إلى آخر،كما نرى الآن في العالم العربي.

أما المؤسسات الدولية، التي أثارت سخرية في ما مضى، فإنها تكتسب ببطء “مصداقية حقيقية”،فقد نما شأن محكمة العدل الدولية،والقانون الدولي، الذي كان في الماضي مجرد فكرة، تتطور ببطء إلى قانون عالم حقيقي. وأعطت بعض البلدان القوية والهامة مثل ألمانيا وفرنسا بشكل إرادي أجزاء كبيرة من سيادتها لصالح الاتحاد الأوروبي، حيث أصبح التعاون الإقليمي والدولي في جميع أنحاء العالم بين الأمم ضرورة سياسية. ولم تعد المفاهيم مثل الديمقراطية والحرية والعدالة وحقوق الإنسان مجرد قيم أخلاقية،ففي عالم اليوم أصبحت احتياجات أساسية،وأساساً لنظام عالمي جديد. وكل هذه العمليات تتقدم بخطا بطيئة تقريباً، ولكن اتجاهها واضح لا شك فيه ولا رجعة عنه.

هذا هو "الجانب الصحيح من التاريخ"، لكن إسرائيل تغلق عينيها عنه. صحيح أنها تتفوق في معظم الصناعات النوعية والتكنولوجيا العالية،وتعمل بنجاح لتوسيع علاقاتها الاقتصادية إلى أقاصي العالم،لكنها تتنكر للرأي العام العالمي والأمم المتحدة والقانون الدولي، وتتمسك بشكل قديم من أشكال القومية المتطرفة التي كانت "حديثة" في زمن الثورة الفرنسية، عندما كانت "الدولة القومية" هي المثل الأعلى. بالطبع فكرة القومية لم تندثر وتحتل حتى الآن مكاناً هاماً في وعي الشعوب، ولكن هذا هو شكل جديد تماماً من النزعة القومية، قومية القرن الواحد والعشرين، التي لا تتعارض مع الأممية،بل على العكس من ذلك، تشكل لبنة أساسية في صرح الهيكل الدولي.
لقد نهضت الشعوب العربية فجأة من سبات قرون طويلة، ويصارع أبناؤها الآن للحاق بركب الأمم الأخرى، بعد أن أهدرت الأنظمة القديمة مقدراتهم وفرضت عليهم أنماطاً من العصور الغابرة، وليس أكثر من ذلك. فمن الصعب أن نتنبأ بنتائج هذه الثورات التي تجتاح المنطقة بأكملها،وخصوصاً في المستقبل.

ربما يكون عام 2011 بالنسبة للعالم العربي هو نفس ما كان عام 1848 لأوروبا، عندما قام الشعب الفرنسي بثورات انتشرت بسرعة في أنحاء القارة الأوروبية، ويمكننا تعلم الكثير منها، ولكن لم يكن الكثير منها إيجابياً. في فرنسا أطاحت الثورة بنظام فاسد،ولكنها مهدت الطريق لصعود نابليون الثالث، وهو أول “ديكتاتور” في أوروبا الحديثة. أما في ألمانيا، التي تجزأت إلى عشرات الممالك والإمارات، حيث كان الحكام قلقين ووعدوا بإصلاحات ديمقراطية، لكن بينما كانت تجري المناقشات بين المحامين والسياسيين في فرانكفورت حول الدستور في المستقبل، قام الملوك بتجميع جيوشهم وسحق هؤلاء الديمقراطيين، وبدأت بذلك حقبة أخرى من الظلم.

وقد خلفت ثورات عام 1848 وراءها إرثاً من خيبة الأمل واليأس، لكنها لم تكن عبثاً، فالأفكار النبيلة التي ولدت في تلك الفترة أيضاً لم تمت، فقد سعت أجيال المستقبل لتحقيقها في جميع بلدان القارة. والتطور الحالي الذي تشهده ألمانيا هو وليد تلك الأيام. قد تنتهي الثورات العربية أيضاً بالفشل وخيبة الأمل، ويمكن أن تنشأ "أنظمة دكتاتورية جديدة"، فكل دولة عربية مختلفة عن الأخرى، وفي كل واحدة ستكون التطورات خاضعة للظروف المحلية. ولكن ما حدث بالأمس في تونس ومصر، وما يحدث اليوم في ليبيا واليمن، سيسهم في تشكيل وجه الأمة العربية الجديد لفترة طويلة قادمة، وستلعب دوراً جديداً تماماً على الساحة العالمية. أما إسرائيل فيهيمن عليها المستوطنون،الذين يشبهون صليبيي القرن الثاني عشر، وتلعب الأحزاب الدينية الأصولية دوراً رئيسياً في دولة الاحتلال، وتغرق النخبة السياسية والاقتصادية في الفساد، ونتيجة ذلك فإن ديمقراطية الاحتلال التي يعتز بها الإسرائيليون كثيراً، هي في خطر مميت.

إن بعض الناس يقولون بأن كل هذا يحدث لأنه ليس لدى نتنياهو وعي سياسي، وعلى العكس لديه سياسة واضحة وهي:الحفاظ على إسرائيل كدولة محمية عسكرياً، وذلك بتوسيع المستوطنات، ومنع تأسيس دولة فلسطينية حقيقية، والمضي قدماً دون سلام وفي حالة من الصراع الأبدي. والآن تسربت أنباء عن أن نتنياهو سيلقي خطاباً تاريخياً في وقت قريب جداً، ولكن ليس في الكنيست، الذي تقترب أهميته من لا شيء، ولكن في المنتدى المهم فعلاً:لجنة العلاقات العامة الأمريكية-الإسرائيلية /إيباك/ اللوبي اليهودي في واشنطن. وهناك سوف يكشف عن خطة السلام، والتي تسربت تفاصيلها مسبقاً، وهي "خطة رائعة" مع عيب طفيف واحد فقط، هو أنه ليس لها أي علاقة بالسلام. ففيها يقترح إقامة دولة فلسطينية ذات "حدود مؤقتة"(مع الإسرائيليين ليس هناك ما هو أكثر ديمومة من "المؤقت") وستتألف من: حوالي نصف الضفة الغربية (يفترض أن النصف الآخر،بما في ذلك القدس الشرقية، ستكون مغطاة بالمستوطنات) وسيكون هناك جدول زمني لمناقشة القضايا الجوهرية كالحدود والقدس واللاجئين وما إلى ذلك (في اتفاق أوسلو، وضع جدول زمني ثابت لمدة خمس سنوات، وانتهت صلاحيته في عام 1999، بالوقت الذي لم تكن فيه المفاوضات قد بدأت بعد) ولن تبدأ المفاوضات أبداً حتى يعترف الفلسطينيون بإسرائيل "كدولة للشعب اليهودي" وقبول جميع “متطلباتها الأمنية”. (المعنى من ذلك أنها لن تبدأ أبداً).
إذا قبل الفلسطينيون بهكذا خطة، فإنهم يحتاجون إلى (على حد تعبير وزيرة الدفاع الأمريكي في سياق آخر) "لفحص رؤوسهم" للتأكد من أنهم ليسوا مجانين. ولكن بالطبع نتنياهو لا يخا
طب الفلسطينيين على الإطلاق،وخطته هي محاولة تسويق مبتذلة وسخيفة (فقد كان في الماضي، وقبل كل شيء، وكيلاً لتسويق الأثاث). و الهدف هو وقف الحملة الدولية "ضد إسرائيل".
ايهود باراك لديه أيضاً ما يقوله في هذا الإطار، ففي مقابلة تلفزيونية طويلة، تتألف كلها تقريباً من كلام سياسي غير مفهوم، قدم ملاحظة هامةهي: أن الثورات العربية توفر فرصاً جديدة لإسرائيل، لكن ما هي هذه الفرص؟ هل تفكر إسرائيل في ذلك: للحصول على زيادة كميات من الأسلحة الأمريكية وزيادة اطلاع على تكنولوجيا هذه الأسلحة وكيفية استخدامها.

وبالفعل فإن العامل الوحيد الذي لا يزال يجعل من هذه السياسة الإسرائيلية مستمرة هو العلاقة التي لا تضاهى بين إسرائيل والولايات المتحدة. ولكن الصحوة العربية، على المدى القريب والبعيد، ستغير توازن القوة العربي-الإسرائيلي نفسياً وسياسياً واقتصادياً وفي النهاية عسكرياً أيضاً. وفي الوقت نفسه، يتغير التوازن العالمي للقوى أيضاً، فهناك قوى جديدة آخذة في الارتفاع، وقوى قديمة تفقد نفوذها تدريجياً. وهذا لن يكون لمرة واحدة، حدثاً مثيراً، ولكن عملية بطيئة وثابتة. هكذا يسير التاريخ وكل من يضع نفسه على الجانب الخطأ منه سوف يدفع الثمن.
(ترجمة ياسر البشير- البعث السورية)

السابق
الراي : لبنان يرقص فوق حبل السرّة السوري
التالي
جنبلاط: الحملة على السلاح لن تنفع