إحياء الصراع السني الشيعي.. خدمة لمخطط التفتيت

اضطر لينين إلى صياغة فلسفة عملية جديدة تضبط العلاقة بين «الدولة» و«الثورة»، وترجح كفة الأولى على الثانية، عندما أدرك أن «نزق» الثورة وأحلامها ينزل بالدولة من الأضرار والمخاطر ما يعجز الأعداء أنفسهم عن إلحاقها بها.. وقد وضع هذه الفلسفة في كتاب معروف «الدولة والثورة».

وفي إيران، حاول عقلاء إيرانيون – ولدوا من رحم ثورة الخميني وآمنوا بولاية الفقيه – أن يفعلوا شيئا مما فعله لينين: وقاية للدولة الإيرانية من «نزق» الثورة وهيجانها ورومانسيتها.
هل نجح هؤلاء؟.. لقد تراوحت المحاولة بين النجاح والفشل من حيث الموضوع، وبين الاستمرار والانقطاع من حيث الزمن، ذلك أن للآيديولوجيا – أي آيديولوجيا – ضغطا وصخبا يرهبان العقلاء الذين كثيرا ما يتراجعون أو يصمتون تحت ضغط الرعب من الاتهام بالعمالة والخيانة، لا سيما أمام الجماهير.

وتبدو الأحوال في إيران وكأن الزمن قد استدار ثم عاد إلى هيئته أيام الثورة الأولى (صخب يعلو ولا يهبط).
وهذه حال توجب على القادة الإيرانيين إعادة حساباتهم السياسية الخارجية بمنطق «مصالح الدولة والتزاماتها ومسؤولياتها»، وهو حساب يقول: إن الدولة الإيرانية خسرت في الآونة الأخيرة بسبب جملة مواقف حضرت فيها الآيديولوجيا بكثافة، وغاب أو ذبل فيها الحساب العقلاني المصلحي.. وتتوكد ضرورة هذه الحسابات بالنظر إلى رؤية يجمع عليها الإيرانيون وهي: «أن لإيران دورا إقليميا بحكم الجغرافيا والتاريخ والإمكانات».. فهذا الدور الإيراني الموضوعي، أي «المجرد من مبالغات الآيديولوجيا والأطماع القومية المجنحة»، لا يكون من خلال النزق والاستفزاز والاستعلاء والإثارة والتهييج ودس الأنف في شؤون الآخرين.. وإنما يكون بالعقلانية.. والاحترام.. وحسن الجوار.. وسمو اللغة.. وبإنشاء شبكة من العلاقات التجارية والاقتصادية يحرص الجميع على عدم إضعافها بهذا السلوك السيئ أو ذاك.

ويكون الدور – كذلك – بـ«الوعي العميق» بمخططات الأعداء، وبـ«الحرص البالغ» على حماية الذات من أن تكون أداة أو مدخلا لتحقيق أهداف الأعداء في تفتيت الأمة.
يقول القادة الإيرانيون إن أعداء الأمة الإسلامية يسعون لضرب وحدتها، وتفتيت كيانها. وهو قول صحيح، بيد أنه قول ينشئ مسؤولية عملية كبرى على القائل، وهي: كف الذات عن المسارعة إلى ما يخدم مخطط الأعداء في التفتيت والتمزيق.
وعوامل التفتيت عديدة – في هذه المنطقة بالذات – ومن أشدها فتكا «إحياء الصراع والفتنة بين السنة والشيعة»، بهدف ضرب الاستقرار.. وتعطيل التنمية.. والإبقاء على الأمة في دائرة التخلف بوجه عام.
وأيما طرف – كائنا من كان – باشر تأجيج هذا الصراع، فإنه يخدم – بلا ريب – مخططات أعداء الأمة، وإن صلى وصام وزعم أنه من أكابر المصلحين، أو من أعداء الذين يعادون المسلمين!.. وإنه لتورط عجيب جد عجيب في هذا المستنقع أن يعقب وزير الخارجية الإيراني على أحداث البحرين بقوله: «إن إيران لا تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي تجاه ما يجري للشيعة في البحرين».. فهذا – بصراحة – تكييف أو توصيف لتلك الأحداث بأنها «صراع بين السنة والشيعة».. وهو توصيف يفرح الذين يخططون لتفتيت الأمة على أساس إحياء الصراع بين الشيعة.. لماذا هذه السقطة السياسية المدمرة، الخادمة للأعداء، الضارة بالأمة؟.. لماذا.. أهي الطفرة الآيديولوجية؟.. أم هي ضعف الحساب السياسي في تقدير المواقف؟
ليس من العقل، ولا من العلم، ولا من الأمانة، نكران الخلاف بين السنة والشيعة، فهو خلاف نشأ منذ أمد بعيد، ودوّن وأصل في مراجع عديدة، فنكرانه إلغاء لتراث موجود تلقته أجيال متعاقبة، بمن فيها الأجيال المعاصرة.. هذا كله صحيح.. وفي الوقت نفسه ليس من العقل، ولا من محبة الإسلام، والحرص على كيان أمته ومصائرها، إيقاد الفتنة بين السنة والشيعة. فمن المؤكد أن هذه الفتنة لا تخدم أمن واستقرار ومصالح أي طرف. بل هي تخدم مخططات العدو الأكبر المشترك، أي العدو الذي يعادي الإسلام كله، والمسلمين جميعا، بغض النظر عن اختلاف راياتهم وأعراقهم ومذاهبهم.

ولنصعد الصراحة فنقل: إن دور إيران الموضوعي لن يتحقق – قط – بتجييش الأقليات الشيعية وتوظيفها في خدمة الدور الإيراني. وإنما يكون هذا الدور الطبيعي بإقامة علاقات عميقة وقوية وطويلة المدى مع «الأكثريات»، وإذا كان تعبير الأكثريات جافا، فإنا نسارع إلى إبداله بتعبير «الأوطان كلها»، أي مع الكويت كله.. والسعودية كلها.. والبحرين كلها.. إلخ إلخ.. وهذه حصافة دبلوماسية من جانب.. وخدمة للمصالح المشتركة من جانب ثان.. وإحباط لمخططات الأعداء في تفتيت الأمة من جانب ثالث.. يُضم إلى ذلك ما هو من صميمه وهو: أن تبنّي إيران لقضايا الشيعة في هذا البلد أو ذاك ليس في مصلحة الشيعة بالقطع، بل هو تصرف يجر عليهم ضررا وبيلا، حيث يظهرهم هذا التصرف وكأنهم «عملاء» لإيران، موجَّهين من قبلها، خادمين لمصالحها، لا مصالح أوطانهم.. ولقد تفطن لهذه المخاطر الزعيم الشيعي البحريني الشيخ على السلمان، حين طلب من إيران عدم التدخل في شؤونهم.

رؤية استراتيجية لتصحيح مسار العلاقات
ونتم المقال برؤية استراتيجية لتصحيح مسار العلاقات بين إيران وجيرانها الخليجيين:
1 – أول ركيزة في هذه الاستراتيجية: الوعي بحقائق الجغرافيا والتاريخ. فجيران إيران لم يختاروا جيرتها، والعكس صحيح. وإذا كان ليس مطلوبا – ولا معقولا – هجرة أحد الطرفين أو كليهما من المنطقة، فإن البديل للهجرة هو التعايش العقلاني الحضاري المحترم، ونبذ كل ما يتعارض مع هذا التعايش من تشنجات وحماقات.
2 – ألا يدعو سني الشيعة إلى مذهبه.. وألا يدعو شيعي السنة إلى مذهبه.. بل يلزم أن توجه الدعوة إلى غير المسلمين، ما دام السنة والشيعة مسلمين.
3 – الأقليات – لدى الطرفين – هم مواطنون لهم كامل المواطنة: أخذا للحقوق، وأداء للواجبات.
4 – بناء على «المواطنة الكاملة»، لا ينبغي التشكيك في أقلية وطنية لوطنها إلا إذا ثبت بدليل قضائي قاطع التياث هذا الولاء بما يشينه.. وهذا ينطبق على الأكثريات أيضا من ناحية قانونية.
5 – هذه الثقة في المواطنة تترتب عليها مسؤوليات جسيمة، على رأسها ألا تسمح أقلية ما لنفسها بتدخل دولة ما – وإن كانت على مذهبها – في شأنها الداخلي، وحالتها الوطنية.
6 – كف الألسنة والأقلام عن النيل – بأي صورة من الصور – من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته وصحابته وأمهات المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين.
هل فات وقت التصحيح؟.. لا.. فالفرصة الزمنية لا تزال مفتوحة لإقامة علاقات أصدق باعثا، وأشرف مقصدا، وأوفى عقلا وواقعية ومصلحة.

السابق
العرب: الحريري يؤكد لملك البحرين دعم اللبنانيين لـ “سيادة واستقرار” المملكة
التالي
السياسة: ميقاتي ينتقد الحريري ويؤكد تحقيق تقدم في تشكيل الحكومة