الشباب المسيحي على الـ”فايسبوك”

لست عادة من الذين تغمرهم عواطف المظاهر الإحتفالية ويؤخذون بالانطباعات الأولية. لكنّ حفل "تولية" بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للموارنة مار بشارة بطرس الراعي وخطابه التاريخي الموازن بين المسؤولية الكيانية اللبنانية للكنيسة المارونية، على حدّ وصف جهاد الزين في مقاله "بطريرك ما بعد موت ذلك النمط من اللبنانية" (30/3/2011)، وانفتاحها على القضايا الوجودية المشتركة لمسيحيي الشرق، دفعاني- كلبناني غير منتمٍ إلى الجماعة المارونية – إلى أن أزيد اقتناعاً بأهمية دور هذه الجماعة بين مسيحيي لبنان والشرق، وبأهمية دور المسيحيين في إخراج لبنان من الإصطفاف المذهبي ذي الأبعاد الإقليمية، دون إعادة إدخاله في الإصطفاف الطائفي المسيحي – الإسلامي الذي ساد منذ تأسيس دولة لبنان الكبير.
غير أن البيعة بالمفردات اللاهوتية هي جماعة المؤمنين، ولا تختصر بالإكليروس ورأسه المتمثّل بالبطريرك، وخصوصاً في زمن التواصل الرقمي على مواقع الإعلام الإجتماعي الذي فجّر المفاهيم التقليدية لصناعة الرأي العام وجعل من انتقال المعلومات والآراء عملية تبادلية، أفقية، وأكثر ديموقراطية، بعد أن كانت عمودية، أحادية الإتجاه، وسلطوية. وهذا الأمر لا يخفى على البطريرك الراعي الآتي من تجربة إعلامية كبيرة، والذي أكد في عظة التولية على دور الشباب والإعلام في صناعة المستقبل.
بناء عليه، لا يستقيم بحث تحوّلات الوعي السياسي الماروني خصوصاً والمسيحي اللبناني عموماً، بالنظر فقط إلى رأي صاحب الغبطة، وانطلاقاً من نظرية "استراتيجيات صنّاع الرأي والقرار" Stratégies des acteurs، بل يجب عدم إغفال الديناميات المحرّكة لنقاشات الشباب الذين أصبحوا في زمن الإعلام الإجتماعي، مشاركين عملياً في السلطة عبر صناعة الرأي (وهذا ما يتبدّى يوماً بعد يوم في الدول العربية). ولأن الشيء بالشيء يذكر، يصلح السؤال عمّا إذا كان الشباب يوّلدون أفكاراً ونقاشات جديدة أم يعيدون استيلاد المشاحنات على الـ"فايسبوك"، وعمّا إذا كان هؤلاء الشباب واعدين للمستقبل حقاً.

الأسئلة والإستفتاءات: جدل بيزنطي

يشكّل موقع التواصل الإجتماعي الـ"فايسبوك" مجتمعاً إفتراضياً، يتداول الناس فيه شؤونهم وشجونهم، إضافة إلى نشاطاتهم وصورهم. غير أن الأهمية السياسية لهذا الموقع تكمن في أنه يفتح مجالاً عاماً جديداً ليس لتبادل المعلومات فقط، بل لتبادل الآراء عن مختلف جوانب الحياة، دون حسيب أو رقيب، ودون لياقات في أحيان كثيرة. وفي لبنان حيث بلغ عدد مستخدمي الموقع مليوناً و227 ألفاً و300 مستخدم في الأول من الشهر الجاري أكثريتهم من الشباب، لا يحتاج المرء إلى دليل كي يكتشف أن العاطفة وردّة الفعل تحرّك السواد الأعظم من التعليقات السياسية، كما أن النقاشات لا تخلو من الحدّة التي تصل إلى حدود السفاهة أحياناً، مما يشير إلى أن الموقع بات وسيلة لتعزيز الإنقسام بدلاً من التواصل البنّاء.
أمّا في موضوع الشباب اللبناني المسيحي، فأكثر ما لفتني هو المواضيع التي تشهد هجمة من قبل أصدقائي المسيحيين الذين ينتمون إلى مذاهب وميول سياسية مختلفة، للمشاركة في النقاش حولها. فقد أدخل موقع الـ"فايسبوك" منذ مدّة خدمة جديدة إسمها Questions، تسمح للأعضاء بطرح سؤال على أصدقائهم، بما يشبه الإستفتاء. وسرعان ما يتنقّل هذا السؤال بين الأصدقاء وأصدقاء الأصدقاء ليطال شريحة لا بأس بها من المتصفّحين. ومن محاسن هذا الأمر أنه يعزّز النقاش والثقافة الديموقراطية وتقبّل الرأي الآخر، لكنّ المحزن فيه الشعبية الكبيرة التي تلاقيها أسئلة ذات طابع سياسي بين المسيحيين، أقل ما يقال فيها إنها لا ترتقي إلى مستوى ما يقوم بها الشباب العربي على الـ"فايسبوك" من ثورات تبدّل مشهد المنطقة وتاريخها.
وعلى سبيل المثال- وهنا لا أدّعي البحث الإحصائي العلمي، كان السؤال الأكثر شعبية: "هل أنت مع نزع سلاح حزب الله؟"، حاصلاً على 36 ألفاً و574 صوتاً في الأول من الشهر الجاري، بينهم ثمانية من أصدقائي المسيحيين. أما السؤال الثاني فهو "من هو الزعيم المسيحي الأقوى في لبنان؟"، حاصداً 23 ألفاً و269 صوتاً في الأول من الشهر الجاري، وتهافت 18 من أصدقائي المسيحيين إلى الإجابة عنه منقسمين اساساً بين النائب ميشال عون ورئيس الهيئة التنفيذية في "القوات اللبنانية" سمير جعجع، فيما هبّ سبعة آخرون إلى الإجابة عن سؤال "ما هي المحطّة المفضّلة لديك؟" الذي صوّت عليه 11 ألفاً و537 فرداً، متوزّعين بشكل سياسي واضح بين الـMTV والـOTV والـLBC. غير أن المحزن في المسألة أن لا أحد منهم كان معنياً بالاسئلة المرتبطة بما يجري بالمنطقة أو بمصير النظام اللبناني في ظل الأزمة الحالية.
ويلاحظ من هذه العيّنة التي قد تفتقر إلى العلمية دون الموضوعية، أن قلّة من الشباب تتفاعل بعقل مع محيطها من شباب المنطقة، ومع القضايا المطروحة على صعيدي الوجود المسيحي في لبنان والشرق، ومأزق النظام اللبناني، فيما تستمرّ أكثرية الشباب المسيحي في إشعال الصراع "المحلّوي"، مكرّرين التجاذبات السائدة منذ عشرين عاماً على الأقلّ، ومستعيدين شعارات البروباغندا السياسية على ضفتي الإصطفاف اللبناني.
في خلاصة الأمر، يبدو أن الراعي في واد ورعيته من الشباب الذين يعوّل عليهم في واد آخر. ومدن المنطقة اليوم من الرباط إلى المنامة، مروراً بالجزائر، وتونس، وطرابلس، وبنغازي، وجوبا، والقاهرة، وغزة، ورام الله، وعمّان، ودمشق، وبغداد، والرياض وصنعاء، وطهران، وبيروت أشبه بالقسطنطينية يوم سقوطها، مع فارق الأحوال والمآل، فيما تتلهّى أكثرية شباب الموارنة وسائر المسيحيين في لبنان بما إذا كانت الملائكة ذكوراً أم إناثاً.

السابق
منظمة العفو الدولية وإلغاء عقوبة الإعدام
التالي
أصوات مقلقة من القاهرة