لإسقاط النظام الطائفي: إبدأوا بالزواج المدني

إلغاء الطائفية كان وما زال معـركة لبنان ووعد «لبنان الجديد»، دفع ثمنه 150 ألف شهيد. ولكن كانت النتيجة أنّه حتى بعد عشرين عاماً من نهاية الحرب الأهلــية لم ينجح اطلاق مشروع الزواج المدني الاختياري، فما بالك بعمليّة أكثر تعقيداً من إلغاء الطائفية ومن الزواج المدني، وهي إسقاط النظام الطائفي؟

لقد جرت محاولة لإطلاق قانون مدني اختياري يشرّع الزواج المدني. ولكن معارضة عارمة من رجال الدين وبعض السياسيين وأنصارهم وقفت ضد هذا المنحى التمديني عام 1998 والذي لو سُمح له بالانطلاق، لتحول النظام الطائفي إلى جثة ولو احتاج هذا لعدّة سنوات. نعتقد أنّ المهمة الأولى للقوى الشبابية المنتفضة في لبنان اليوم هي العـمل بشكل يومي على إحياء مشــروع الزواج المـدني وجعله قانوناً في أقرب فرصة. إّنها الثغرة الصغيرة التي ستهدم سدّ المذهبية البشعة وخطوة نحو لبنان جديد يتناغم مع الثورات العربية.

ما يثير اهتمام الزائر أو المراقب الخارجي في العام 2011 هو طغيان الديني على المدني في الحياة العامة اللبنانية. حيث تُنقل صلاة الجمعة وقدّاس الأحد مباشــرة عبر البث المباشر وتخصّص لها الساعات على محطات التلفزة الرئيسية. ولا يخلو الشأن السياسي أبداً من طقـوس الدين، هذا إذا لم تــكن الموعظة التي يلقيها رجال الدين سياسية بالكامل. ولا يتوقّف الأمر على يومي الجمعة والأحد، إذ إنّ تصريحات رجال الديــن ولقاءاتهم تحـتل مساحة ممــيّزة من الــصحف الرئيسـية طيلة أيام الأســبوع، فيما تتقدّم أخبار نشـاطاتهم اليـومية النشرات الاخبارية التلفزيونيــة، وتقام مقابلات مطوّلة مـع رجال الديـن كل أسبوع على الأقل. ويتــجاوز نفوذ رجال الدين السياسة والسلطة الدينــية إلى لعب دور سلطة رقابية على ما يقرأه أو يشاهده اللبنانيون. وهذه بدعة لم يشهدها لبنان سابقاً، حيث يُمنع عرض فيلم لا يعجب رجال دين هذه الطائفة أو تلك، وتُوقف أغنية أو كتاب أو قصيدة أو مسرحية أو فيلم بإيعاز من هذه السلطة الدينية أو تلك، فينفّذ الأمن العام إشارات المنع.

الصعود الديني في الــشأن العام في سنوات ما بعد الحرب استند إلى دسـتور الطائف 1989 الذي أجاز للسلطات الدينية حق الاستئناف أمام أعلى السلطات القضائية اللبنانية حول أي قانون أو مرسوم يضرّ أو يمسّ، بنظر السلطات الدينية، بطائفة أو بحريّة المعتقد وحريّة الضمير وحق التربية والتعليم الديني. وفوق هذا، فإنّ رجال الدين يلعبون دوراً محوريّاً في منع خطوة يطلـقها حوار أو نقاش حول مستقبل لبنان. كما حصل عندما حاول الرئيس الياس الهرواي تمرير مشروع قانون الزواج المدني الاختياري عام 1998، فخرجت الحشود إلى الشارع تحارب هذا المشروع بتحريض من رجال الدين. ويرى رجال الدين أنّ أي تحوّل عن السـتاتيكو الطائفي هو مسّ بأسس النظام السياسي ويهدّد امتيازات الطوائــف الكبرى. وفيما تضاءل نفوذ الأحزاب العلمانية في لبنان منذ 1976، كـ«البعث» و«السوري القومي الاجتماعي» و«الشيوعي»، أصـبح العمل الحزبي في لبنان ما بعد الحرب قناعاً للقبائل الطائفية.

ومن المفيد تسليط الضـوء على مواقف الرؤساء من مشـروع الزواج المدنــي عام 1998، فقد كان الفـضل الأول لرئيس الجمهورية الهرواي بإطــلاقه، حيث وقف رئيس الحكومة رفيق الحـريري بحزم مع موقف رجال الدين التقليــدي ضد هـذا المشروع الذي أيّده رئيس المجــلس النيابي نبيه برّي واعتبـره بمثابة اســقاط جدار برلين.

وتراوحت مواقف الزعماء بين موقف وليد جنـبلاط الذي يعكــس موقــف الدروز، فقد أيّد المشروع بسـبب تراثه الاشتراكي ولكنه التزم الحياد في موضوع إلغـاء الطائفية. ورفض الرئيس أمين الجميّل إلغاء الطائفية، «لأنّ لبنان هو تركيبة طوائــف وإلغــاء الطائفية يعني في النهاية إلغاء الطوائف نفسها وبالتالي إلغاء الانسان اللبناني… فالطائفة تحمل في طيّاتها ثقافة وتقاليد وتوجّهات معيّنة، وهذا ما كرّســه قانون الأحوال الشخصية وهو إنجـاز مهم على الصعيد الوطني». وهذا كان رأي إدمـون نــعيم، حاكم مصرف لبــنان السابق والنـائب في البرلمان عن «القوّات اللبنانية» الذي رأى أنّ «موضوع إلغاء الطائفية السياسية هو مزاح في مزاح لأنّه يعني إلغاء النــظام الديني وهـو نـظام تتمـسّك به الأكثرية المسلمة»، وإلغاء الطائفية «يؤدّي في النهاية إلى سيطرة المسلمين». ويتــساءل نعيم: «هل رأيتم ماذا فعل سماحة مفتي الجمهورية عندما طرح الرئيس اليـاس الهرواي موضوع الأحوال الشخصية الاختيارية علماً أنّه ألحقه بطلب البدء بإلغاء الطائفية السياسية؟ فكيف تلغى الطائفـية السياسية إذا لم تُضمن وحدة الشعب اللبــناني اجتماعياً، وإذا لم ننجح في نزع الحسّ الطائفي والمذهبي من الفرد اللبناني بحيث ينتخب الشخص المناسب مهما كان دينه أو مذهبه؟»(1).

والحقيقة أنّ إلغاء الطـائفية كما جاء في اتفاق الطائف من دون إسقــاط النظام الطائفي يعني غياب نظام دولة الرعـاية المدنية ويفتح الباب لاستلام أغلبية طائفية مسلمة زمام قيادة البلاد على حساب الجماعات الأصغر وخاصة على حساب المسيحيين. فيصبح حكم أغلبية دينية أو اثنية قناعا ديمقراطيا مزّيفا لدكتاتورية هذه الأغلـبية حيث تغيب العدالة والمساواة. وحــتى الكلام عن فصل الدين عن الدولة خارج برنــامج علمنة الدولة المدنيّة لا يكفي بدون خريطة طريق وضمانات عندما توافق الأقلــيّة المسيحية والأقليّات الصغرى على التخلي عن ضماناتها.

لقد تعلّق الناس بزعمــائهم كما لم يفعلوا من قبل، وتمـسّكت بالمصالح الــطائفية الضيقة لطبقتها السياسية والمرجعيات الروحية. ومن هذا المنظور يمكن تحليل سبب الرفض الطائفي الجارف لمشــروع الزواج المدني الاختياري الذي قدّمه الرئـيس الهرواي في شباط 1998. ليس أنّ رجال الـدين المسلمين والمسيحيين وقفوا ضـدّه وحسب، وليس أنّ معظم الطبقة السياسية أيضاً عارضته، لا بل كان ثمّة معارضة شعبية جازمة ضد «العلمنة الكافرة التي يبشّر بها هذا المشروع». كل هذا كان ضد مشروع كان اختيارياً على أي حال. وبؤس الثـقافة اللبنانية أنّ مؤيدي الزواج المدني الاختــياري كانوا أقلية تـتألّف من بضــعة مثــقفين وكتّاب مسلمين ومسيحـيين أعلنوا موقفهم للرأي العام، إضافة إلى عدد ليــس بقــليل من طلاب الجامعــات. الموقــف المعارض الجارف للمــشروع كان دلــيلاً آخر، وكــأنّ ثمّة حاجة إلى أدّلة عن تجــذّر الطائفية كخيوط العنكبوت في تلافيف المجتــمع اللبناني.

إنّ البرلمان اللبناني مبني، كالنظام اللبناني، على تحالفات وولاءات الطائفية ولن يُصدر أبداً تشريعات تلغي الطائفية إرادياً.
وإلغاء الطائفية السياسية بدون مجتمع مدني مثقّف يقبل بالتشريعات المدنية والعلمانية أمر صعب. ولذلك فثمة أمل من تظاهرات اليوم لاسقاط النــظام أن يـبدأ المشـوار بالزواج المــدني عام 2011 ثم بانتخاب نواب يقبلون بالإصلاح الواسع عام 2013.

السابق
فلسطين في قلب الثورة العربية… أين شبابها؟
التالي
حوري وماروني وعلوش يدينون التدخل الإيراني في شؤون دول الخليج