المحكمة الدوليّة: ماذا عن المساواة في تطبيق القانون؟

لعلّ التزام مبدأ المساواة في تطبيق القانون، وتجنّب الكيفية في تفسيره، من أهمّ المقاييس الضامنة لمحاكمة عادلة، فازدواجية المعايير في تطبيق القانون ربّما كانت من أهمّ الأسباب التي قضت على ثقة العالم العربي بالعدالة الدولية. وسيكون لمدى التزام المحكمة الخاصة بلبنان بمبدأ المساواة في تطبيق القانون، أثر مهمّ جدّاً في تقرير مدى نزاهة قضاتها ومهنيّتهم واستقلالهم.
واجب التزام المقاييس التي تضمن بلوغ العدالة لا يبدأ بالمحاكمة. فالمحاكمة تقتصر على النظر في نتائج التحقيق، وما يوضع أمام قاضي الحكم من تهم ووقائع تؤكّدها أو تنفيها. سأقتصر هنا على مبدأ المساواة في تطبيق القانون، في معرض معالجة المحكمة، لما أتوقّع أن يكون أوّل الدفوع التي سوف تنظر بها، وهو الدفع بعدم قانونيتها.
أستبعد جدّاً ألّا يكون الدفع بعدم قانونية المحكمة هو أوّل الدفوع التي سوف يدلي بها أيّ متّهم يمثل أمام المحكمة، كائناً من كان هذا المتّهم. فغياب الأساس القانوني للمحكمة لعلّة تجاوز مجلس الأمن صلاحياته في إنشائها، وخصوصاً لجوءه الى الفصل السابع من الميثاق، إنّما هو اعتبار يتمتّع بحظوظ كبرى في النجاح، خصوصاً إذا توفر عنصر الاستقامة والثبات على مبدأ المساواة في تطبيق القانون لدى قضاة الحكم.
ربّ قائل إنّ مجلس الأمن بالتحديد، هو جهاز من منظّمة دولية سياسية بجوهرها، يتمتّع بصلاحيات واسعة جدّاً ولا يخضع في قراراته لرقابة قضائية من أيّة سلطة.
الواقع أنّ عدم وجود آلية قضائية نصّ عليها في ميثاق الأمم المتحدة، وتمثّل مرجعية للطعن بقانونية قرارات مجلس الأمن، قد شجّع المجلس، وخصوصاً في إطار الامتياز الذي تتمتّع به الدول الخمس الدائمة العضوية، أي حقّ النقض، على الكيل بمكيالين في قراراته وخاصة المتعلّق منها بالشرق الأوسط.
لا بل إنّ غياب هذه الآلية قد مكّن مجلس الأمن، في بعض الحالات، من تجاوز القانون الدولي وبعض نصوص الميثاق المنشئ لمجلس الأمن. دفع ذلك بعض الحقوقيين وأساتذة العلوم السياسية الى الرأي أن مجلس الأمن لا يخضع في قراراته لأيّة ضوابط قانونية، اللهمّ سوى ما تمليه مشيئة الدول الصانعة لقراراته.
لكنّ المحاكم، التي واجهت مهمّة تفسير قرارات أجهزة الأمم المتحدة وتطبيقها في حدود ما يجيزه الميثاق، وفي طليعتها محكمة العدل الدولية، رأت أنّ الطبيعة السياسية الغالبة على هذه القرارات لا تمنع المحكمة من ممارسة صلاحياتها في تقدير طبيعة المواضيع التي تطرح عليها والإجابة عن الاسئلة التي تحتمل الإجابة القانونية. سأتطرق إلى قرار واحد لإحدى محاكم الجنايات الدولية الخاصة، لشدّة ملاءمته للموضوع الذي نحن بصدده.
محكمة الجنايات الدولية الخاصة بيوغوسلافيا سابقاً هي أولى المحاكم الخاصة التي أنشأها مجلس الأمن (1993) معتمداً الفصل السابع من الميثاق أساساً لصلاحياته في إنشاء تلك المحكمة. أوّل الدفوع التي أدلى بها أحد المتهمين، ويدعى داسكو تادجيك، كان الطعن بالأساس القانوني للمحكمة، بحجّة أنّ الميثاق لا يمنح مجلس الأمن صلاحية إقامة مثل هذه المحاكم.
 ردّت غرفة البداية لدى المحكمة الدفع بفقدان الأساس القانوني للمحكمة بحجّة أنّ لا صلاحية لها للنظر بقانونية قرارات مجلس الأمن. لكن غرفة الاستئناف نقضت قرار غرفة البداية، في الثاني من تشرين الأوّل 1995، ورأت أنّ لها اختصاصاً للنظر في قانونية إنشاء المحكمة من مجلس الأمن.
الجدير بالاهتمام هنا، هو التعليل القانوني الذي اعتمدته المحكمة في قرارها. تعليل يمثّل سابقة مفيدة جدّاً، وهداية للمحكمة الخاصة بلبنان، هذا إذا لم تمارس ازدواجية في تفسير القانون وتطبيقه.
نظرت المحكمة أوّلاً في الحدود القانونية لصلاحية مجلس الأمن، فرأت أنّ الميثاق يعطي مجلس الأمن صلاحيّات واسعة جدّاً، لكن لا يمكن عدّها صلاحيات غير مقيّدة بحدود. «فمجلس الأمن هو أحد أجهزة منظّمة دولية أقيمت بموجب اتفاقية تمثّل الإطار القانوني لها. ومجلس الأمن يخضع للقيود التي حددّتها الاتفاقية التأسيسية مهما اتسعت صلاحياته. ولا يمكن هذه الصلاحيّات أن تتعدّى حدود الصلاحيات العامة للمنظّمة».
ثمّ تعود المحكمة إلى المادة 24 من الميثاق التي تفرض على مجلس الأمن القيام بواجباته المنصوص عليها في الميثاق «وفقاً لمقاصد الأمم المتحدة ومبادئها والسلطات الخاصة المخوّلة لمجلس الأمن لتمكينه القيام بهذه الواجبات……»، لتؤكّد أنّ الميثاق يتحدّث بلغة الصلاحيات المحدّدة لا السلطة المطلقة.
ثمّ تنكبّ المحكمة على تحديد صلاحيّات مجلس الأمن، بموجب الفصل السابع الذي اعتمده المجلس لإقامة المحكمة الخاصة بيوغسلافيا سابقاً، فتقول: إنّ اللجوء الى الفصل السابع يفترض تهديداً أو إخلالاً بالسلم العالمي، أو في حال وقوع عمل من أعمال العدوان. ولئن كان من السهل تحديد أعمال العدوان من الوجهة القانونية، فإنّ تقدير تهديد السلم العالمي هو أقرب إلى كونه مفهوماً سياسياً. «لكنّ تقدير وجود تهديد كهذا لا يعني استنساباً مطلقاً، إذ يبقى في الحدّ الأدنى، في حدود المقاصد والمبادئ الواردة في الميثاق».
لكنّ المحكمة، استناداً الى هذه المقاييس، رأت أنّ مجلس الأمن لم يتجاوز صلاحياته في إنشاء المحكمة، لأنّ حالة النزاع المسلّح التي سادت في يوغسلافيا لمدّة طويلة من الزمن، كانت تمثّل بالفعل تهديداً للسلم العالمي، يبرّر لجوء مجلس الأمن الى الفصل السابع. وقد ردّت المحكمة حجّة المتّهم بأنّ النزاع المسلّح الذي كان سائداً كان بمثابة ثورة داخلية، ولم يكن نزاعاً مسلّحاً، وعدّت أنّ بعض الحروب الأهلية يمكن أن تمثّل تهديداً للسلم العالمي.
لقد جاء استنتاج المحكمة بهذا الصدد منطقيّاً، لأنّ جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية التي ارتكبت في بعض الاقاليم من يوغسلافيا سابقاً، وكذلك في رواندا، تمثّل بذاتها تهديداً للسلم العالمي، وهذا ما يسلّم به معظم فقهاء القانون الدولي.
لقد اعتمدت المحكمة حالة النزاع المسلّح الذي كان سائداً في يوغسلافيا معياراً لشرعية لجوء مجلس الأمن الى الفصل السابع في إنشاء المحكمة، وردّ جميع الحجج التي أدلى بها المتّهم تادجيك لجهة غياب أي دليل في الميثاق على صلاحية المجلس في إقامة جهاز قضائي.
مهما بلغت بنا الرغبة في شرعنة قرارات مجلس الأمن، في ما يتعلّق بالمحكمة الخاصة بلبنان، وكلّ الإجراءات القانونية التي سبقتها، لا يمكن القول إنّ الحالة التي سبقت، أو رافقت أو تبعت اغتيال الرئيس الحريري ترقى الى حالة نزاع مسلّح ارتكبت خلاله جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية. وهذه الجرائم هي المبرر الأساسي، وموضوع عمل جميع المحاكم الدولية التي أنشأها مجلس الأمن.
واذا أخذنا أيضاً في الحسبان ردود الفعل الشعبية على الصعيد العالمي، حيال الفظائع التي ارتكبت أثناء النزاع المسلّح في يوغسلافيا سابقاً، وكذلك العديد من القرارات التي اتخذها المجلس لوقف المجازر وجميع الأسباب الأخرى التي دفعت مجلس الأمن للجوء الى الفصل السابع في إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا، نرى أن لا مجال للمقارنة على الإطلاق بالحالة اللبنانية التي نحن بصددها.
ولا غرابة في أنّ خمسة من أعضاء مجلس الأمن، بما في ذلك اثنتان من الدول الدائمة العضوية فيه (روسيا والصين)، قد عارضوا أو امتنعوا عن التصويت على القرار الذي أنشأ المحكمة الخاصة بلبنان، بحجّة أن لا مسوّغ للّجوء الى الفصل السابع من الميثاق.
وهكذا، إذا احترمت المحكمة الخاصة بلبنان، التي يرأسها القاضي أنطونيو كاسيزي الذي ترأس كذلك المحكمة الخاصة بيوغسلافيا، مبدأ المساواة في تطبيق القانون واعتمدت المعايير التي اعتمدتها تلك المحكمة، فسيكون من الصعب جدّاً على المحكمة الخاصة بلبنان ردّ الدفع بانتفاء الأساس القانوني للمحكمة.
واذا حسبنا، من وجهة أخرى، أنّ مجلس الأمن لم يكن بحاجة الى اللجوء للفصل السابع من الميثاق في إقامة المحكمة الخاصة بلبنان، لأنّ أساسها القانوني هو اتفاقية بين لبنان والأمم المتحدة، أو هكذا كان يجب أن يكون، يبقى أنّ الأساس القانوني للمحكمة الخاصة بلبنان هو اتفاقية غير مستوفية الشروط الدستورية لصحّتها ونفاذها.
عاملان أساسيان، مثّل غيابهما سبباً أساساً لعدم استيفاء الاتفاقية المنشئة للمحكمة الخاصة بلبنان الشروط الدستورية. تمثّل الأوّل باستبعاد السلطة اللبنانية، المعنية دستوريّاً بالتفاوض بشأن الاتفاقات الدولية، عن هذا التفاوض. وهذه السلطة هي رئيس الجمهورية الذي لم تأخذ الجهة الممثلة للأمم المتحدة بأيّ من ملاحظاته واقتراحاته الخطّية. والعامل الثاني هو كون الاتفاقية لم تحظ بموافقة السلطة التشريعية، بحسب الأصول البرلمانية المتّبعة، كما يقضي الدستور اللبناني، وذلك بسبب خلاف لبناني داخلي حول الاتفاقية.
وعلى الرغم من عدم ارتكاب جرائم يعاقب عليها القانون الدولي، في الوضع اللبناني، كجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، وهو ما استلزم تطبيق القانون اللبناني حصراً، وذلك خلافاً لجميع المحاكم الجنائية الخاصة التي أنشأها مجلس الأمن، فقد لجأ المجلس الى الفصل السابع من الميثاق. والسبب وراء ذلك هو إعطاء الصيغة التنفيذية لاتفاقية غير مستوفية الشروط الدستورية لصحّتها ونفاذها، مخالفاً بذلك قواعد راسخة في القانون الدولي لجهة صحّة الاتفاقات الدولية ونفاذها.
إنّ المحكمة الخاصة بيوغسلافيا، أثناء النظر في الحدود القانونية التي على مجلس الأمن التقيّد بها، رأت، بمنتهى الوضوح، أنّ على مجلس الأمن، التقيّد في قراراته بالمقاصد والمبادئ الواردة في الميثاق، أي المادتين الأولى والثانية.
ويبدو أنّ مجلس الأمن، من خلال لجوئه الى الفصل السابع، أراد أن يمنح نفسه رخصة لمخالفة مبدأ أساسي من المبادئ المنصوص عليها في المادة الثانية من الميثاق (المادة2 (7)). يحرّم المبدأ على الأمم المتحدة التدخّل في الشؤون الداخلية للدول «على أنّ هذا المبدأ لا يخلّ بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع». تصرّف مجلس الأمن وكأنّ التقيّد بأحكام الدستور اللبناني، في إبرام الاتفاقيات الدولية، يمثّل تهديداً خطيراً للسلم العالمي، ويقتضي اتخاذ تدبير قمعي هو إعطاء الصيغة التنفيذية لاتفاقية فاقدة الشروط الدستورية لصحّتها ونفاذها. من الصعب أن نتصوّر إساءة لاستعمال السلطة وخروجاً على الصلاحيات، أكثر إمعاناً من هذه الإساءة وهذا الخروج على الصلاحيات اللذين قام بهما مجلس الأمن.
فلو اعتمدت المحكمة الخاصة بلبنان، بقيادة كاسيزي، الاستقامة في اعتماد مبدأ المساواة في تطبيق القانون، وتجنّبت ازدواجية المعايير في النظر بالدفع بعدم قانونية المحكمة، لخلصت الى أنّها تفتقر الى الأساس القانوني في اقامتها. وكانت، بذلك، ضمنت لنفسها النزاهة والكفاءة والاستقلال عن القوى والمآرب السياسية التي كانت وراء إنشائها. كذلك، كانت قد أعادت الى العدالة الدولية سمعة باتت بأمسّ الحاجة اليها، ولشاركت فعلياً في إنهاء الأزمة اللبنانية وضمان السلم الأهلي الذي أدّت قرارات مجلس الأمن، بما فيها قرار إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، دوراً أساسياً في تهديده، وما جرى ويجري على الأرض يشهد بذلك.
 

السابق
الديار: الاتصالات لتشكيل الحكومة تجاوزت الاطار السابق على صعيد شموليتها
التالي
مطلوب حكومة تحظى بثقة شعبية ونيابية