فئوية السلاح سبب لإسقاطه والشرخ الذي يُحدٍثه يستدعي إقامة لبنان جديد

ما الذي تقوله الجماعة المسلّحة عن نفسها في لبنان؟ هي تفاخر بأنّ سلاحها فئويّ، ذلك أنّه لا يبحث عن إجماع حوله ومحالٌ أن يقوم إجماع ضدّه.
ما الذي تقوله الجماعة المسلّحة عن الدعوة إلى إسقاط سلطة سلاحها الفئوي في لبنان؟ تذمّ وتخوّن مطلقيها بحجّة أنّها دعوة فئوية، وبأنّها ساقطة حكماً نظراً إلى انعدام الإجماع حولها. الدعوة إلى إسقاط السلاح فئوية وبالتالي ينبغي سحبها، أما السلاح الفئويّ نفسه فله طول البقاء، ولكم منه مفاجآت موسميّة.
إنّها سفسطة ما بعدها سفسطة. لمّا كان السلاح فئوياً لزم أن تكون المطالبة بإسقاطه فئوية وبالتالي لزم أن تبطل هذه المطالبة في حين يبقى السلاح الفئويّ على حاله، بل أكثر، يعزّز سيطرته إذا ما سُحبَت الدعوة لإسقاطه، ويتابع تمارينه اليوميّة أو يعيدنا إلى أيّام التمارين النوعيّة.
لأجل ذلك، أي بوجه هذه السفسطة التي ما بعدها سفسطة، وجب النزول إلى ساحة الحريّة في 13 آذار 2011. ليسَ فقط لاستنهاض أو إحياء 14 آذار 2005، وليس فقط لنقد الذات منذ مساء 14 آذار 2005 إلى اليوم، وإنّما أكثر من ذلك. هي محطة تأسيسية من نمط جديد تماماً.
 

ففي 14 آذار 2005 كان هناك بالفعل إجماع محقّق حول إنهاء الوصاية وتحقيق الجلاء والمطالبة بالحقيقة والعدالة. وكان من يعترض على ذلك يكتفي بصورة الخارج عن الإجماع.
أمّا في 14 آذار 2011 فالمعادلة مغايرة تماماً. ليس ثمّة إجماع على السلاح لأنّه فئويّ، وليس ثمّة إجماع ضدّ السلاح ما دام السلاح فئوياً، لكن في الوقت نفسه ليس هذا سببا للعدول عن المطالبة بإسقاط السلاح، بل على العكس تماماً، إنّه سبب إضافيّ، بل سبب مضاعف، بل سبب الأسباب جميعها وعلّة العلل. أن يكون السلاح في يد فئة دون أخرى في لبنان فيعني ذلك أنّه سلاح لفئة على أخرى، وقبل أن يكون هناك أكثرية شعبية وأكثرية برلمانية هناك أكثرية الشعب اللبنانيّ الأعزل من السلاح، في وجه الجهاز المسلّح الذي يحاول الظهور بمظهر الشعب المسلّح "الوطنيّ" في وجه الشعب اللبنانيّ الأعزل المنقسم بين "متفاهمين مع السلاح" و"إنهزاميين أمامه" و"مواجهين له".
إنّ النزول إلى ساحة الحريّة في 13 آذار 2011 ضروريّ إذاً لإسقاط السفسطة. فالسلاح فئويّ، لكنه ليس مجرّد امتياز لفئة على أخرى من جملة امتيازات تقليديّة تتوزّعها الجماعات اللبنانية أو تتبادلها أو تتناوشها. السلاح ليس مجرّد امتياز لفئة في مقابل امتيازات معقودة اللواء لفئات أخرى. ليس هو مجرّد إسم للهيمنة. بل هو الصكّ الميدانيّ الذي يثبت أنّ هذه الهيمنة ستبقى غير مستقرّة مهما فعلت أو حاولت، بل إنّها ستدفع بالأمور الإقتصادية والسياسية والإجتماعية أكثر فأكثر إلى انعدام الاستقرار، وستدفع بالعيش المشترك أكثر فأكثر إلى حيث يصعب تضميد الجراح ومداواة التشوّهات التي لحقت به. والاستقرار غير ممكن في ظلّ نظام الهيمنة الفئوية المسلّحة لأنّه نظام الحرب الأهليّة المتعدّدة الأوجه، المتواصلة حيناً والمتقطّعة حيناً آخر، والمُخاضة من جانب شبه أحاديّ، "صادف" أنّه الجانب الذي "أعفيَ" خلافاً لمقتضيات إتفاق الطائف، أي أنّه السلاح الذي فخّخت به عملية إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية.
من هنا، فإنّ 13 آذار 2011 أمام تحد أّول: إثبات أن فئوية السلاح لا تلغي شرعية المطالبة بإسقاط سلطته، بل على العكس، تجعل ذلك مطلباً ليس فوقه مطلب، وليس تحته مطلب.
أمّا التحدّي الثاني فهو الإعتراف بواقع الشرخ الجذريّ الحاصل في الشعب اللبنانيّ، بين شعب أعزل وبين شعب يراد تصويره على أنّه شعب مسلّح، في حين أنّه أقرب ما يكون إلى الشعب المسجون بالسلاح، في استعادة محلية لبنانية للنموذج الباسدرانيّ الذي ينتفض عليه الشعب الإيرانيّ منذ سنتين.
وهذا الاعتراف لا يعني بأيّ شكل من الأشكال إيجاد مطلب آخر فوق مطلب إسقاط السلاح أو تحته، إنّما هو اعتراف بأنّه لا بدّ للحركة الإستقلالية اللبنانية كي تكون مجدّداً كذلك، من أن تبادر إلى نقاش حيويّ داخلها وخارجها لأجل طرح تصوّر للبنان جديد، لبنان ما بعد إسقاط السلاح، فعلى أساس هكذا تصوّر يمكن فعلاً إسقاط السلاح، وهذا التصوّر ينبغي أن يكون معياره بناء مجتمع لا تغلب فيه فئة فئة أخرى، ودولة لها حيثية وجودية متفلّتة من الصراع بين الطوائف، أي قادرة على تطوير هذا الصراع نحو تعدّدية ديموقراطية لامركزية حقيقية، متمحورة حول الثنائية الإسلامية المسيحية.
ومثل هذه التعدّدية ما عاد يمكنها أن تستمرّ في ظلّ دولة المحاصصة، إلا أنّه لا يمكن أبداً أن تجد نفسها تحت شعار "إلغاء الطائفية"، ذلك أنّ اللاطائفية هذه لم تكن يوماً إلا الأيديولوجيا السائدة في الدولة الطائفية، منذ حكومة الإستقلال الأوّل عام 1943 وإلى اليوم.
في مقابل دولة المحاصصة المنقضية، والتي يمثّل نظام الهيمنة الفئوية المسلّحة آخر تجلياتها، بعد أن مثّلها مطوّلاً النظام الأمنيّ المشترك بعد الحرب، يقع على عاتق اللبنانيين اليوم، داخل وخارج الحركة الإستقلالية في إطارها الرسميّ، المبادرة إلى التعبئة ضدّ سلطة السلاح كمطلب لا ثاني له أوّلاً، ثمّ الإعتراف بعمق الشرخ الحاصل بين اللبنانيين ثانياً، والمبادرة ثالثاً إلى طرح تصوّر أوّل للبنان الجديد، بالشكل الذي يقيم دولة التعددية الديموقراطية اللامركزية، أي دولة المناصفة بديلاً من دولة المحاصصة المركزية التي آلت إلى ما آلت إليه، مع سلطة السلاح الفئويّ الأيديولوجيّ المتوتّر.

صحيفة "المستقبل"

السابق
المتطرفون ينتظرون
التالي
مرجع روحي كبير: 2011 سيشهد نهاية النظامين السوري والإيراني و«حزب الله»