الأكراد والمصير: أبعد من استفتاء

اكراد

مرة جديدة يقف الأكراد على مفترق طرق وعر. وهم وإن انصفت جبالهم الوعرة تراثهم وطرق عيشهم، إلا أنها شكلت نقمة تاريخية على مصيرهم المرتبط دوما بالمحيط القريب والبعيد، وبمصالحه الاستراتيجية. وقد ترك المبضع الغربي بعد الحرب العالمية الأولى، جروحا ظلت تنزف على مدى القرن الماضي، وما زالت، بعد أن مزّقهم أقليات موزعة على أربع دول-أمم هي تركيا وايران والعراق وسوريا. ولأن عددهم يفوق الثلاثين مليونا، أضحوا يُعرفون بالقومية الأكبر في العالم التي تعيش بلا دولة.

الدولة الغائبة عن الأرض، ظلت حلما يراود الأكراد، وهدفا يريدون تحقيقه. وهم خاضوا من أجل ذلك صراعات ومعارك كثيرة، وتحققت لهم في بعض الحقبات فترات من حكم ذاتي، وصلت الى انشاء دولة فعلية في مهاباد لم تتمكن من الصمود أكثر من عام. الدول التي تواجدوا فيها حاولت الحفاظ على حدودها وسيادتها عبر إدماجهم بالقوة في نسيجها الاجتماعي، الا أن ذلك زادهم تمسكا بهويتهم وتمايزهم الثقافي، رغم القمع الذي تعرضوا له في معظم الأحيان.

إقرأ أيضاً: هل تخذل واشنطن الأكراد في سوريا مجددا؟

أكراد العراق الذين فاق عددهم الخمسة ملايين نسمة، دفعوا أثمانا باهظة نتيجة رفضهم حكم التاريخ عليهم، وتعرضوا لحملات إبادة وتهجير تم توثيقها. وبناء عليه أقامت الولايات المتحدة الاميركية منطقة حظر جوي فوق مناطقهم تهدف الى حمايتهم. نتيجة ذلك، تمكن أكراد العراق من إقامة دولة ضمن دولة، وأنشأوا برلمانا وحكومة إقليمية، وحصلوا رسميا ضمن دستور العراق الجديد، بعد الحرب الاميركية وإزاحة صدام حسين، على حكم ذاتي ونسبة من عائدات الحكومة المركزية. ولكن خلافات عديدة نشبت بين إربيل وبغداد، أبرزها على العائدات وأداء القوى الأمنية ومواجهة الدولة الاسلامية، أدت الى نوع من فك الارتباط.

صدّرت حكومة إقليم كردستان النفط بمعزل عن بغداد، وأقامت علاقات تجارية مع تركيا وإيران، وعاش الإقليم حالة مستقلة على أرض الواقع، إزدهرت عندما كان سعر برميل النفط مرتفعا، وشهدت تراجعا مع تراجع سعره. وعلى العموم، شهد الاقتصاد أزمات لعل أبرزها عدم دفع أجور الموظفين. وقد أرجع خبراء سببها الى تفوق الاستهلاك على الانتاج، والاعتماد على النفط. السياسة أيضا شهدت صراعات حالت دون انعقاد البرلمان، دون إغفال استمرار الرئيس مسعود البارازاني في منصبه رغم انتهاء ولايته. في ظل كل ذلك، أتت الدعوة الى استفتاء على مصير الاقليم.

بعد أشهر على ذلك، ها نحن نقف على عتبة اجراء استفتاء تقرير المصير. وفي الصورة إجماع عليه داخل حدود الاقليم، وإجماع ضده خارج الحدود من القوى الاقليمية والدولية.

الولايات المتحدة بقي اعتراضها في إطار التوقيت والمخاوف من أن يؤثر على أولوية محاربة داعش. وهي بذلك حاولت الابقاء على امساك العصا من المنتصف، فلا هي تخلت عن شريكها الاستراتيجي في المنطقة الذي طالما تحدثت بحتمية حصوله على دولة مستقلة يوما ما، ولا تخلت عن التزامها بعراق موحد محافظة بذلك على علاقتها ببغداد. وقد أعربت عن استعدادها لتسهيل حوار جاد ومتواصل بين الطرفين. طبعا، نضع خطين تحت كلمة متواصل، لانه يتيح للادارات الاميركية المتعاقبة الاستمرار بم يمكن وصفه بالتحالف الظرفي مع الاكراد، في ظل غياب استراتيجية بعيدة المدى على ما يبدو.

تركيا كذلك من ابرز المعترضين لأكثر من سبب، أبرزها الخوف من أن يشجع انفصال الاقليم النزعة الانفصالية لدى أكراد تركيا، ما يهدد وحدة كيانها، وأيضا الروابط القوية بين الاتراك وتركمان كركوك، المدينة التي يعتبرها الاكراد عاصمتهم التاريخية. ولكن بعض المراقبين يشيرون الى العلاقات الجيدة التي تربط أنقرة بالاقليم، والى الحرب التي تخوضها ضد أكراد سوريا، ليستبعدوا فتح جبهة جديدة إذا ما قرر أكراد العراق الانفصال فعلا.

ايران تتشارك مع تركيا المخاوف من انفصال أكرادها، وقد تكفي الاشارة هنا الى أن الانتفاضة التي قادها الشيخ عبيد الله عام ١٨٨٠ وحاول فيها توحيد المناطق الكردية، تم سحقها على يد الجيوش العثمانية والايرانية المشتركة. علما أن العديد من المحللين يغمزون الآن من قناة توافق مصالح تركي إيراني على هذه النقطة بالذات، قد ينعكس على المنطقة برمتها. واذا كان التركمان نقطة اهتمام أنقرة بكركوك، فإن لإيران إهتماما أكبر يتمثل بكون المدينة نقطة عبور بين طهران ودمشق. وهي طريق دفعت الجمهورية الإيرانية أثمانا فادحة لابقائها مفتوحة.

وكركوك هي أيضا العقدة الأساس بالنسبة لبغداد التي وإن اعربت عن استعدادها للحوار، إلا أن المدينة بالنسبة اليها خط أحمر. وقد وصف رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الاستفتاء بغير الدستوري محذرا من ان يقود الى كارثة، قبل أن يحصل على تفويض من البرلمان العراقي باتخاذ الاجراءات اللازمة للحفاظ على وحدة البلاد. وهو وجه بعد ذلك دعوة وصفها بالاخوية الى قادة كردستان لعدم اللعب بالنار، محذرا اياهم من خسارة المكتسبات التي حصلوا عليها.

السؤال الابرز عشية الاستفتاء: هل تنجح تسوية اللحظة الأخيرة؟

العديد من المراقبين ظل يراهن على عدم حصول الاستفتاء، واستخدامه كورقة تفاوض للحصول على اتفاق افضل مع بغداد من جهة، ورفع للعلاقات الديبلوماسية مع دول اقليمية ودولية من جهة أخرى. ولكن اذا لم يحصل ذلك قبل اجرائه، هل يمكن تجاهل نتيجته؟ ألن يشكل ضغطا شعبيا وسياسيا ومأزقا على زعماء ما انفكت مشاكلهم تطفو على السطح، والتحديات الماثلة أمامهم تزداد تعقيدا؟

السؤال الأشمل من ذلك، هل هو فعلا الوقت المناسب لممارسة حق تقرير المصير كما يقول مسعود البارزاني في ظل غياب أي طرح بديل مرضٍ؟ النفي قد يكون الجواب الاقرب الى المنطق، لماذ؟ لأن حظوظ الاستقلال تبقى شبه معدومة من دون دعم القوى الاقليمية والدولية، وفي ظل غياب مقومات اقتصادية لدولة قابلة للحياة بكرامة دون رضى الجيران. وهنا تذكير بعدم تمتع كردستان بأي منفذ على البحر، وبأن نافذتها للتبادل الاقتصادي الابرز حتى الساعة، هي خط انبوب نفط واحد يمر عبر تركيا. دون أن ننسى احتمال اندلاع مواجهات وموجات عنف، خاصة في إطار الصراع على كركوك.

إقرأ أيضاً: الأكراد السوريون: هل باتت «الفيديرالية» أمرا واقعاً؟

أما السؤال الأهم من كل ما تقدم: هل قرر الأكراد وجهتهم وشكل الدور الذي يريدون لعبه مستقبلا في المنطقة؟ هل لاحظوا أن الانقسامات الداخلية الدائمة التي عاشتها قبائلهم وعشائرهم وأحزابهم، وغياب منظومة سياسية موحدة وبرنامج واضح، شكلت حجر عثرة أمام قيام دولتهم الحُلُم، الى جانب الظلم التاريخي الذي عانوا منه؟ وعليه، أليس من الأسلم التمتع بأي شكل من أشكال الحكم الذاتي على الارض ( دي فاكتو كالحاصل في شمال سوريا أيضا مثلا ) الى أن تتاح الفرصة لتنسيق الرؤى وتوحيدها، وأن يظهر الخيط الابيض من الاسود في المنطقة؟

ختاما، ظهور داعش أدى الى إضعاف حكومات مركزية عدة، والى إزالة حدود على الأرض، وأفسح أمام الاكراد مجالا للحركة ولعب دور فعال. في نفس الوقت، النظام الذي فُرض على المنطقة قبل مئة عام ومزّق الشعب الكردي، يتمزق الآن أمام أعيننا، والفرصة تاريخية فعلا، لاعادة تشكيل نظام بديل على المستوى الاقليمي الشامل، وليس على مستوى إقليم محدود. فهل تعي شعوب المنطقة وقادتها ذلك؟ وأي طريق سيسلكون؟

وهل يعي أكراد كردستان تحديدا أن فرص الربح عندهم أكبر إذا ما دفعوا باتجاه توحد الاقليم في إطار حل تكاملي إقليمي، ويخسرون مجددا إذا ما قبلوا التحول الى أداة في يد اسرائيل والغرب لتقسيم المنطقة؟ والنقطة الأخيرة هي ما حذر منه سابقا زعيم أكراد تركيا عبدالله أوجلان الذي راهن على عدم تشبث غالبية الكرد بقالب الدويلة القومية المعروضة عليها، والتي لا تسمح بفرصة الحياة الحرة لأي شعب. معتبرا بالمقابل أن شكل الكونفدرالية الديمقراطية هو الانسب لتحقيق طموحات الكرد، نظرا لخصائصهم ومزاياهم التاريخية والجغرافية.

السابق
جنبلاط يحذّر وزراء اللقاء الديمقراطي: لا تدعو الشيطان يدخل في التفاصيل
التالي
حزب الله يؤيد تسهيل الانتخابات والتيار الحر لا يريد تأجيلها