إلى نور، إلى طه من «حكايات أبو النور»

الزاهرية طرابلس

عندما كنت عائدة ذات صيف (عام 2002) الى الولايات المتحدة الاميركية بعد عطلة ممتعة طويلة قضيتها في طرابلس مع الاهل والاصدقاء، وقبل يومين من موعد السفر، علمت بصدور “حكايات ابو النور”، للشاب الطرابلسي المثقف أبو مصطفى، محمد مصطفى اسماعيل علوش، الذي رحل عن عالم الدنيا بعد هذا الصدور بحوالي سنتين في العام 2005.

اقرأ أيضاً: لم تنته الحرب الأهلية…

زرعت طرابلس جيئة وذهاباً من مكتبة الى وراق، في الاولى نفذت الطبعة والآخر قال لي: صعب لا نسخ كافية العدد كان قليلاً جداً….
بعد جهد جهيد وبفضل أصدقاء قديمين، واصدقائي كثر في طرابلس، حصلت على النسخة الثمينة من الصحافي الأستاذ مايز أدهمي وقد طبع الكتاب لدى “دار الإنشاء” التي يملكها وهو بالتأكيد أحد أصدقائي الحقيقيين.
اطلعت سريعاً على الصورة – الغلاف -: مبنى مهدّم في منطقة باب التبانة الشعبية الفقيرة، بل المعدمة في طرابلس وقد انهار نصفه تقريباً بفعل ايام الحرب الاهلية، ليس المبنى وحده الذي انهار منذ تلك الحرب.
ابقيت النسخة النادرة الثمينة في جعبتي، في حقيبتي اليدوية حتى حان موعد الفراق والوداع والبكاء ككل مرة،
وفي كل مرة يكون الفراق اصعب حيث يدرك كلا الطرفين ان الغربة ستطول مرة بعد اخرى، خاصة مع وجود اطفال، حيث يزداد تعلق الاهل بهم مرة بعد اخرى.
في الطائرة، والرحلة طويلة طويلة الى القارة الجديدة، فتحت الكتاب من الصفحة الاولى حتى الاخيرة، بدأت أقرأ بشغف ونهم، دموع فراق الاهل لم تكن لتجف بعد، ولم ولن تجف، فبين السطور لا بل بين الحروف ل “أبو النور”، لا بد ان تتواصل الدموع رغم الضحكات التي لم استطع منعها خلال قراءتي للمواقف التي تبدو انها مضحكة، اعادتني الى مدينتي التي لم تكن لتبارحني خلال سنيّ غربتي، اعادني ابو النور بكلماته البسيطة والعميقة في آن الى ايام الحرب وذكرياتها والتحارب و”الإستحراب”. عدت بذاكرتي الى صورة طفلة خائفة من اصوات التفجيرات والقنابل والقصف المتبادل بين احياء وابناء المدينة الواحدة، بل اوقظ في اذني اصوات الرصاص وصور المدافع التي كانت تجثم تحت نوافذ بيتنا وغيره من البيوت في طرابلس وكان في كل شارع وحي تنظيم وتجمع ل: “الاخوة” و”الابوات” والمناضلين ضد الاخوة والابوات في الحي المجاور، لا سيما اثناء فترة حرب السنتين حيث وقفت جدتي لأمي “أم محمد” وفتحت النافذة راجية احد شباب التنظيمات المحلية الطرابلسية سحب المدفع الذي يبلغ طوله حوالي 10 أمتار من تحت غرف نومنا المطلة على الشارع والذي ربما قد تم استحضاره من قبو المبنى القريب الذي يملكه احد العناصر المنتمين الى “الحركة” او من اي مبنى في شارع “المدارس” لا فرق. ارى جدتي لطفية تقف بمنديلها الابيض ووجها المنير السموح تخاطبه: “الله يرضى عليك يا امي شيل المدفع من هون البيت مليان اولاد وختيارية الله يخليلنا تشرين وايلول وحزيران كمان شيلو برضى امك عليك”. آنذاك كان معظم اهل امي يقيمون عندنا لأن بيتنا يقع في منطقة آمنة نسبيا ًعن منطقة بعل الدراويش التي يسكنونها بالاضافة الى ان المياه لم تكن تقطع عندنا طيلة ازماتها في الحرب لاننا نسكن في الطابق الارضي من مبنى ملكي القديم الذي شيد عام 1932. ولا أدري لمَ لمّ استطع التمييز اثناء قراءتي بين ابو مصطفى الكاتب وابو النور”بطل الحياة في اليوميات” ربما هما واحد او ربما هما كل الشباب في التبانة، في طرابلس، في كل لبنان.

الزاهرية طرابلس
اعاد الي “ابو النور” مشاهد متداخلة من الصور والذكريات، صور “لنور” واصدقائه من أخوالي وسواهم الذين كانوا يملأون المبنى صراخاً وضحكاً وموسيقى صاخبة تتدفق من الطابق الخامس حيث يجتمعون في بيت ميشال ونديم الى الطابق الأرضي. صور اخرى لجيراننا واقربائنا خاصة من الشباب الذين هجروا طرابلس ولبنان، وهم عندما يعودون للزيارة، تحس أن المدينة ما زالت تسكنهم بكل احيائها وتفاصيلها وحتى حروبها متمسكين بذاكرة دافقة حيال تجارب حياتهم التي عاشوها قبل الحرب وخلالها وبعد اغترابهم وانسلاخهم عن مدينتهم.
أما “نور” فتسكنه طرابلس اكثر من سواه من اقرانه لأنه ما زال يسكنها ويتجول في شوارعها وازقتها كما اعتاد هو، واعتاد عليه رفاقه ومن يعرفونه، رغم ان ما عاناه من الحرب قد يفوق اية معاناة اخرى لهؤلاء الرفاق. تراه وضحكته المشرقة المفعمة بالحياة والطموح والنشاط وقوته المتحدية، ليت بعض الشباب اليوم ليتمثلوا بها.
ما زلت أستذكر “ابو النور” بقدر ما أستذكر والدي الراحل عنا في غفلة من الايام منذ عقد ونصف، وافتقده في تفاصيل حياتي اليومية، وحين أحن إليه أهرع راكضة الى قبره اجلس تحت شجرته واسترجع جميع تفاصيلي السعيدة والحزينة وارمي غربتي وراء ظهري لعلها كانت بلا طعم ولا رائحة.
ولكن افضل ما فيها كان انها رسخت لي ذكرياتي في مكان عميق من فكري استخرجها حين اريد فأعيد صياغتها بحب وحنان كما تعتني أم بأولادها.
أعادني “أبو النور” طرابلس التي ما زالت تعيش فينا، نعيش فيها، نحبها، تحبنا ودائماً نعود اليها بعد غربة طويلة، نستذكرك ورفاقك وابناء حيك ونستحضرهم، من خليل عكاوي (أبو عربي) ورفاقه الراحلين الى مصطفى اسماعيل شقيق ام عربي وزملائه الذين قتلوا في مجزرة داريا واخرون في مجازر اخرى من الحرب البوهيمية والبهيمية والذين تستحضر جلّهم في حكاياتك الحقيقة عن المدينة، استذكر معك الشباب الرواد في طرابلس والشمال من نهلا الشهال الى خالد زيادة الى غابي سرور وطلال خوجه الى د. عبد المجيد الرافعي وزوجته وسواهم، ربما تخونني الذاكرة في استعادتهم الان، الى سواهم من شباب الجبل (جبل محسن) من آل خليل وغيرهم الكثيرين في التبانة ووسط البلد المثقفين المتعلمين المنفتحين.
أقرأ الكتاب حرفاً حرفاً واذا بي ارى شريط الصور يتدافع امامي الى مشاهد احياء باب التبانة التي كان لي فرصة الدخول الى بيوت اهلها والاحتكاك بهم بعد الحرب من خلال دراسة اجتماعية عام 1995 (بعد انتهاء الحرب العسكرية الامنية)، واذ بالحرب حطت رحالها في نفوسهم واحوالهم وطرق معيشهم وخبزهم اليومي منذ بداياتها وحتى اليوم، والحال في باب التبانة الآن يزداد سوءاً منذ تلك الزيارات. وتزداد الحروب النفسية بين حين وآخر في باب التبانة وجبل محسن والمنطقة.
تصطحبني الصور الى مقابر الشهداء في باب التبانة وباب الرمل، هذه المقابر التي يحكي عنها ابو النور ليذكر اصحابها ابناء المدينة الذين ذهبوا ضحية: لا شيء، وغيرها من مقابر “المنسيين” والمقابر المنسية المهملة كباب التبانة وأهلها، وكأن الشهداء “الاحياء عند ربهم يرزقون” والأحياء – من اهل التبانة وسواها من المناطق المهملة – منسيون كمقابر مبعثرة أوتماثيل متحركة بلا روح، كأموات سائرة الى موت آخر.
لعل ابو النور يطمئن فإني وإن كنت لا أزور المقابر إلا نادرا، فإني أزور باب التبانة دائماً، فلي فيها بعض الاصدقاء وصور وذكريات ومقاصد اخرى.
وصلنا الى محطتنا الأوروبية من رحلتنا الى اميركا، وتحديداً الى إيرلندا، وما زال الكتاب يشدّني صفحة بعد اخرى، وكأنني لم اغادر طرابلس عبر هذا الكتاب، وتذكرت يوم كنت أسافر في رحلة سياحية الى باريس عام 1996 احمل تلك المرة في جعبتي “حارات الأهل جادات اللهو” للدكتور خالد زيادة حيث قرأته دفعة واحدة خلال تلك الرحلة.
كتابين عن طرابلس، ما هذا السر؟، لا بد أنني أحمل مدينتي معي أنىّ سافرت أو رحلت أو إغتربت. كتاب للسلام وآخر للحرب، هكذا الحياة، هكذا هي المدن. وفي كل منهما متعة خاصة، تجمعهما طرابلس بأحيائها وأزقتها ولهو صبيتها – الكاتبان – وقناديل حاراتها القديمة وأسواقها الداخلية الشعبية الجميلة بفوضويتها وكأنهما وجهان لعملة واحدة .
تركنا أوروبا، وبدأت رحلتنا فوق المحيط الأطلسي، كنا فوق الغيوم والمياه الشاسعة الإمتداد من تحتنا، والشمس تغازلنا لتغيب في أوروبا وتشرق إلى المقلب الآخر من الكرة الأرضية: في بلاد العم سام التي تطوي سراً لم يفقهه الكثيرون بمن فيهم أنا، او اني انا التي لم احب الغربة الى بلاد غرَّبتني عن نفسي فيها فسكنت فيَّ مدينتي وانا بعيدة عنها.
تابعت حكاياتك ابو النور، وعدت بالذاكرة الى السهرات التي كنا نمضيها خلال الحرب مع جيراننا والأصدقاء وكنا ننتمي الى مذاهب وملل مختلفة: المسلم السني، المسيحي الأورثوذكسي والماروني وحتى البروتستانتي. كانت ضحكاتنا تخترق “جدران الحرب” ونحن نلعب ورق الشدّة والحزازير والمباريات في العثور على اكبر عدد ممكن من اسماء الاشياء بالحرف الهجائي الواحد، وفجأة ها هو أحد “الحربجيين” يخرج من المبنى المجاور مهدداً بأعلى صوته : “إخرسوا وليييييييييه”، “خرى عليكم يا عكاريت” مطلقاً من بندقيته الآلية بعض الرشقات في الهواء، فننكفىء عن الشرفة لنتابع المرح في غرفة الجلوس رغم حر الصيف والحرارة المنبعثة من “اللوكس” الذي يعمل على الكاز بعد انعدام تام للكهرباء في تلك الايام وصوت فحيحه كالافعى يزيد معاناتنا.
لم يكن بيننا حرب وما زلنا حتى اليوم نعيش معاً في طرابلس في هذا المبنى “الواحد” لكل سكانه. كانت هذه هي طرابلس يا “ابو النور” وما زالت بالنسبة لي، هي هي لا استطيع التفكير حتى في الإنتقال من المبنى الذي ولدتني امي فيه على يد الداية ام حسن الاسطة التي كان اسمها “نختازي” يصعب على العديدين لفظه.
اتابع الكتاب واستشف منه ما وراء الحرب والتقاتل، ما نتيجته ؟: لا شيء،هباء بهباء بهباء.
تقارب الصفحات من النهاية، لا، لا نهاية مع” ابو النور” . فما زالت للقصة بقية في طرابلس او في اية مدينة عربية، ما زال اهلنا في طرابلس، وما زال الكثير من القصص عن طرابلس واحيائها يحتاج الى راو يتوق اليه القراء.
ما الذي فقدناه ؟ هل فقدنا الاشياء يا “ابو النور”؟. فقدناك نعم، فقدت ابي نعم، ولكن اجدني أحدث نفسي اننا لم نفقد “نور الامل”. الدموع ما تزال في عينيّ عبر الرحلة الطويلة من المدينة الأم الى غربة عن نفسي ستكون كبيرة.
وصلنا الى أرض العم سام، أصبحت طرابلس على بعد آلاف الأحلام ، لكنني أقبض عليها في قلبي، في يدي، فما زالت “حكايات ابو النور” بين كفي وما زالت “حارات الاهل” في مكتبتي استذكر فيها لهونا مع اولاد حارتنا خلف حديقة منزلنا في الساحة الواسعة لمبنى لميا سنتر.
ما الذي فقدناه يا ابو النور فقدناك بالموت، ولكن “نور” مازال معنا في طرابلس، واليوم: عدت اليها أنا ايضاً عودة جذرية، تركت بلاد العم سام، وسحرها المزيف، فما كان لها عندي اي سحر، عدت هذه المرة عدت برفقة “طه”، رفيق نور. وطه ايضاً قرأت له الكتاب وقصصت عليه صور بعض تلك الايام، وكيف كنا نجتمع بمحبة في بيت “التيتا ام مصطفى” (والدتي) وكم ضحك طه للكلمات “العامية” لأبي النور وكم كان أكثر سعادة وتلهفاً حين التقينا “نور” في شارع عزمي حيث أيقن ان “الحكايات” والحياة صنوان ملتصقان.

(كتب هذا النص في عام 2010)

 

 

السابق
خاص جنوبية: ماذا قال عن حزب الله مصدر قريب من ديمستورا؟
التالي
تعليق اغلاق مقر الأونروا الرئيسي لليومين القادمين