سوريا واوباما والمتمسكون بالعالم القديم

المعارضة السورية

نجح نظام البعث السوري منذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة سنة 1971 في تثبيت المكانة الجيوسياسية لبلاده، كدولة إقليمية شريكة في صياغة التوازنات السياسية للمنطقة. وتمكّن الأسد طيلة الحرب الباردة من الإقامة بحذر في المنطقة الرمادية، بين المصالح السوفياتية من جهة والشروط الأميركية من جهة أخرى، راسمًا بدقة حسابات سوريا وموقعها في لعبة الأمم. وبذلك تمكن نظامه من العبور سالمًا بعد هزيمة السوفيات سنة 1991. ودفع أقلّ الأثمان جراء علاقته غير العميقة بالسوفيات. فقد أدرك الديكتاتور الأب مبكرًا القواعد السياسية والثقافية والاجتماعية المكونة للعقل السياسي الغربي، وخلفياته المعرفية التي أسّست لعلاقته مع شعوب المنطقة وقضاياهم.
في المسألة السورية، استطاع نظام البعث استثمار الخدمات التي قدّمها إلى جهات إقليمية ودولية منذ انقلاب 1971 في معركة حمايته ومنع سقوطه. وتحوّل إلى منظومة خدمات تتقاطع فيها المصالح الأميركية بالروسية والإيرانية بالإسرائيلية، حيث يقوم كل طرف في الدفاع عن مصالحه في سوريا. وعلى الرغم من تناقضها الظاهر، فإنها متطابقة في الباطن، فهي قائمة على توافق مصلحي يقضي بالحفاظ على النظام السوري، ولو أنه يمثّل الجهة الشرقية المتبقية من جدار برلين. وهو توافق أيضًا يتجنّب قيام خريطة سياسية جديدة شرق المتوسط، تعيد تكوين السلطة وفقًا لشروط الديموغرافية التي تفرضها مصالح الأغلبية والطموحات التي راودتها في مرحلة الاستقلال الوطني ونهاية الحقبة الاستعمارية. وهي شروط وطموحات كانت تتعارض حكمًا مع مشاريع الهيمنة التي حاولت فرضها أنظمة الحرب الباردة التي فسحت المجال أمام العسكريتاريا العربية في قيام أنظمة استبدادية، وغضت الطرف عن استهدافها الليبرالية العربية الناشئة، ومجتمعاتها المدنية، وتجفيف طبقتها الوسطى، بهدف تثبيت سلطتها التي تم احتكارها بيد أقلية عسكرية حزبية أو فئوية.

اقرأ أيضًا: أهوال وقف النار
منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة السورية، اندفعت أسماء مؤثرة في صناعة الرأي العام الدولي للدفاع عن منظمة فكرية وثقافية أقلوية، محذرين المجتمع الدولي، وفقًا لنظام المفاهيم الذي تمكّنوا من إرسائه على مدى عقود، بأنه ليس على استعداد للتعامل مع نتائج ما بعد سقوط البعث وصعوبة التعايش مع البديل. وهو بديل على الأرجح سيعتمد على شرعية شعبية محكومة بقواعد ديمقراطية، تساعده على تخطي ضغوط الدول الكبرى ورفض هيمنتها، وهذا ما دفع كاتب بمستوى توماس فريدمان إلى أن يكون من أشدّ المدافعين عن بقاء نظام البعث، على الرغم من كلامه المنمّق بكون الأسد شخصا فظيعا وقائدا قاتلا. فطالب فريدمان بحل على طريقة إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، أي عدم وجود منتصر أو منهزم، مع تمثيل عالٍ للأقليات. الأمر الذي يوضح أن فريدمان ومعه فرديد زكريا وروبرت فيسك وروب مالي ومارتن إندك ودينس روس وألكسندر دوغين، إضافةً إلى برجنسيكي وكسينجر، يتعاملون مع شرق المتوسط من منطلق مصالح الأقليات على حساب الأغلبية. وهو موروث ثقافي غربي، يعود إلى علاقة شائكة تاريخيًا مع الدول العربية والإسلامية منذ الخلافة العباسية، مرورًا بصلاح الدين والأندلس وسقوط القسطنطينية، ووصولاً إلى دول شرق المتوسط، وخصوصًا دول الطوق الفلسطيني، حيث تنتمي أغلبية شعب الفلسطيني إلى بعد إسلامي، تشكل الأغلبية السورية الممنوعة من الحكم عمقه الاجتماعي والثقافي والديني.
ليس مستبعدًا أن يكون جزء من التكوين الثقافي للرئيس الأميركي باراك أوباما، مبنيا على خلفية الانطباعات السلبية التي تركها الاستشراق الأوروبي عن المشرق العربي والإسلامي والدولة الإسلامية السنية لدى المثقف الأميركي. فالأخير اعتمد بشكل كبير على ما دوّنه الأوروبيون في آخر أربعة قرون، وبناءً عليه تعامل باراك أوباما منذ وصوله إلى البيت الأبيض بعدم مبالاة مع مصالح الأغلبية العربية والإسلامية، إلى أن أوصلت سياسته نفسها إلى حال شبه عداء مع هذه الأغلبية بعد مواقف إدارته في سوريا. آخرها كان السماح للروس بتغيير الموقف السياسي والعسكري بقوة النار، التي بات استمرارها بهذا العنف كفيلاً بتحويل الأغلبية السورية إلى أقلية، مع استمرار عمليات التهجير الجماعية، وتدمير حواضرها والقتل العشوائي، ليخضع الشعبي السوري لعقوبة جماعية، جراء خروجه على مفاهيم الاستشراق الجديد.

(الشرق الاوسط)

السابق
بالصوت: «شيرين عبد الوهاب» تعتزل الفن بشكل نهائي!
التالي
فرنسا تدعو الى اجتماع فوري لقوة المهام الخاصة بسوريا لبحث انتهاكات وقف الأعمال القتالية