النفايات المشعّة: برّي حمى عدلون.. ماذا عن بقية المناطق؟

في ألمانيا، لا تتعدى نشرات الأخبار العشرين دقيقة كحد أقصى، تتلى فيها رؤوس أقلام الأخبار السياسية والإقتصادية، وتمر فيها بعض أخبار متفرقة، ونشرة الطقس. أما إذا خاطرت وسيلة إعلامية في تمديد عمر النشرة، أو “الثرثرة” فيها، فقد تصبح عرضة لمقاطعة الجمهور، الذي يسارع لتغيير المحطة، لأن وقته ثمين.

كذلك، فإن مرور خبر عن إعتداء على حيوان، قد يؤدي إلى نزول شريحة واسعة من الناس الى الشارع إعتراضاً. أما إذا كان الإعتداء على إنسان، فقد يتطور الوضع، ليصل الى تظاهرات وصدامات وإستقالات لسياسيين، إذا ما حمل الموضوع خرقاً للقوانين، أو إعتداءً على حقوق الشعب.

هذا الوضع هناك… في مكان بعيد عن حي السلّم وساحة ساسين، وبعيد أكثر عن وسط بيروت، الذي يعج بمناضلي المجتمع المدني، وبعيد عن كل زاوية من زوايا بلد تتنافس فيه محطات التلفزة على عرض “سكوب”، ليس بالضرورة ان يكون صحيحاً، لكنه يجد طريقه الى أذهان المستمعين، ويعلق فيها على أنه حقيقة تواجه الحقائق التي تُعرض على قنوات أخرى، وتعبّىء جمهوراً آخراً. وللمفارقة، الجمهور العريض لا يُظهر ما بداخله إلا في قضايا التحريض المذهبي، أما عند مرور خبر حول وفاة طفلة على باب مستشفى، أو تهريب مخدرات أو نفايات مشعة، فلا تتعدى ردة الفعل كلمة “يا حرام”، مرفقة بشتم “الدولة”، بعدها يستمر بمشاهدة مسلسل تركي، أو مباراة كرة قدم.

عبر المستشفيات، تمر صفقات لا تقل خطورة عن صفقات الجمارك، لأن قطاع المستشفيات يضم أقساماً غير قليلة تفيد في تحصيل الأموال وتشكيل مافيات تتشابك أعمالها، وتحمي بعضها عبر غطاء سياسي رسمي. وعلى الرغم من حملة مكافحة الفساد التي أطلقها وزير الصحة وائل أبو فاعور، و”إشتباكه” مع العديد من المستشفيات، إلا ان التحرك الجدّي رسمياً وشعبياً لم يحصل بعد. فالرسميون لا يتحركون إزاء تجاوزات المستشفيات، وتحديداً لجهة اذلالهم للمرضى، ولجهة إستعمالهم للنفايات الطبية كسلع يبيعونها ويكسبون منها، وإن على حساب الصحة العامة والبيئة.

وقضية النفايات تحديداً، تمتد خطورتها بعيداً عمّا تُنتجه المستشفيات المحلية، لأن نفايات “أجنبية” تدخل البلاد خلسة وعلانية، تسهم في تراكم الخطر. وليس الكشف عن دخول أطنان أو آلاف الأطنان من المواد المشعة الى لبنان، آخر فصول الحكاية، فهذه الأزمة مستمرة منذ فترة الحرب الأهلية وانفلات الحدود، حتى وإن قلّل وزير البيئة محمد المشنوق من الكمية الى ما لا يزيد عن الطن الواحد. فالمشنوق أكد أمس خلال ورشة عمل حول “إدارة النفايات الطبية في المختبرات”، عقدت في “بيت الطبيب”، أنّ كمية المواد المشعة التي دخلت الى لبنان “لا تتجاوز الطن الواحد ولكنها خطرة”. وأضاف، “هنا كان القرار بأنه يجب أن تعاد الى بلد المنشأ من حيث أتت، ولكن لم يتمكنوا من تحديد هذا البلد لأنها جاءت مهربة الى لبنان، فكان عليه أن يتحمل مسؤولية تخزينها بما لا يتسبب بأي ضرر على المواطنين في أي منطقة”. وهذا الإعتراف يحيل حكماً الى الجمارك التي من المفترض أنها تراقب ما يدخل ويخرج من البلاد.

أما الشق الثاني من الكلام، المتعلق بمكان التخزين، فيطرح علامات استفهام كثيرة، حول المكان وآلية التخزين والمخاطر الناجمة عن ذلك. فهل سيقبل أبناء المناطق السبع التي اقترحتها لجنة ألفتها قيادة الجيش، بتخزين المواد لديهم؟ التجربة الأخيرة برهنت العكس، إذ رفض أهالي منطقة عدلون تخزين النفايات في مركز الجيش في المنطقة، لأنها “تؤثر على التربة والمياه والإنسان”، وفق ما قاله رئيس البلدية سميح وهبي لـ “المدن”، مقترحاً تخزينها في “مناطق جردية بعيدة وغير مأهولة”، مؤكداً ان “رفض التخزين في عدلون جاء بشكل مباشر من دولة الرئيس (نبيه بري) منذ حوالي 20 يوماً، وانتهى الموضوع حينها، لكنه سرّب الى الإعلام يوم أمس”.

الحماية المباشرة التي تلقتها عدلون من قبل رئيس مجلس النواب، قد تجد نظيرها في مناطق أخرى، أما سكان المناطق غير المحميّة، فسيدفعون الثمن، تماماً على غرار ما يحصل في مكبات النفايات المنزلية في أكثر من مكان. أما الحل الجذري الآمن، فهو غير مطروح، ويؤكده كلام المشنوق بأن الموضوع “قيد المعالجة الآن، لكن أين ستنتهي فلا أدري”.

وزير البيئة لا يدري، والشعب لا يدري ولا يريد أن يدري، فالدراية سلّمها لزعماء أدخلوا أطناناً من نفايات المستشفيات والمصانع السامّة، الآتية من أوروبا الغربية ومن المعامل النووية في أوروبا الشرقية، فضلاً عن آلاف الأطنان من براميل المواد الكيميائية الخطرة، التي فرّغ جزء منها في البحر، وجزء آخر دفن في البر، ويدفع المواطن الصامت نفسه، ضريبة صمته من خلال فضائح الفساد الغذائي المتأتي بجزء كبير من تلوث التربة والمياه الجوفية بتلك المواد.
(المدن)

السابق
العالم مسؤول جزئيا عن «أحلك أعوام» النزاع السوري
التالي
صباح الخير أيتها الثورة