الدين من دون إله

في عيد الميلاد هذا، ستذهب عائلتنا إلى الكنيسة. يُقام القداس في كنيسة قديمة جميلة في بلدة والبول الساحرة في نيو هامشير، على الحدود مع فرمونت

صلاة الرب معلقة على الجدار خلف المذبح. ترتفع منصة في صحن الكنيسة كي ينظر الراعي من الأعلى إلى قطيعه. تتوزّع المقاعد الخشبية الطويلة في الوسط والجانبَين في مؤخر الكنيسة، في صفوف محكمة تناسب الرعية الاستعمارية التي كانت تقصد الكنيسة من قبل لمواجهة الله.
لكن هذه الكنيسة موحِّدية. ظهرت العقيدة الموحّدية في العصور الأولى لأوروبا الحديثة لدى أولئك الذين رفضوا اللاهوت الثالوثي وفضّلوا عقيدة أن الله واحد. لكن بحلول القرن التاسع عشر، كانت الكنيسة الموحّدية قد تحوّلت مكاناً للمثقّفين الذين شكّكوا في المزاعم الإيمانية لكنهم أرادوا التمسّك بالإيمان بطريقة من الطرق. فقد تحوّل تشارلز داروين مثلاً نحو الموحّدين جراء الشكوك المتزايدة التي كانت تساوره. والدتي هي ابنة قس معمداني، وهي الخروف الأسود، بالمعنى اللاهوتي، في عائلتها. تريد أن تذهب إلى الكنيسة، لكنها ليست واثقة تماماً مما إذا كانت تريد الله. لا يأتي إعلان المبادئ الحديث الصادر عن “جمعية الموحدين الكونية” على ذكر الله على الإطلاق.
يبدو أن هذا الإيمان الخالي من العلاقة مع الله يتنامى بسرعة، وفي حالات كثيرة يكون دور الله أقل حتى من دوره بالنسبة إلى الموحّدين. ظهرت الطقوس الإلحادية في مختلف أنحاء البلاد، حتى في “حزام الكتاب المقدس”. وعدد كبير منها على ارتباط بـ”جمعية الأحد” التي أنشأها الممثلان الكوميديان، ساندرسون جونز وبيبا إيفنز، في بريطانيا. جونز وإيفنز ملحدان باعترافهما. لكنهما أنشآ حركة تستقطب آلاف الأشخاص إلى أحداث تتضمن موسيقى وعظات وقراءات وتأملات، وحتى تلويحاً بالأيادي المرفوعة. ينضوي نحو 200 تجمّع في إطار “جمعية الأحد” في مختلف أنحاء العالم. وقد استقطب تجمّع أجري في لوس أنجلس العام الماضي مئات المشاركين.
كيف نفهم هذا الاندفاع لإقامة شعائر “كنسية” على الرغم من الإيمان المتردّد أو حتى غير الموجود؟ لا شك في أن جزءاً من الجواب يتعلق بالسعي إلى التواجد ضمن مجموعة. هذا ما قاله جونز لوكالة “أسوشيتد برس”: “إنشاد أغانٍ رائعة، سماع كلام مثير للاهتمام، التفكير في تحسين نفسك ومساعدة الآخرين – والقيام بذلك ضمن مجموعة تربط بين أعضائها علاقات رائعة. أليست كلها أمور يروق الإنسان القيام بها؟”.
من الأجوبة أيضاً أن الشعائر تُغيّر الطريقة التي نعير فيها الاهتمام بقدر ما تعبّر عن الإيمان – وربما أكثر مما تعبّر عنه. في “إجراءات الشعائر النموذجية”، يذهب العالِمان الأنتروبولوجيان، كارولين هامفري وجيمس ليدلو، إلى حد القول بأن الشعائر لا تتعلق أبداً بالتعبير عن الالتزام الديني، بل تتعلق بالقيام بأمر ما بطريقة تجعل اللحظة مختلفة عن اليوميات المعتادة، وترغمك على اعتبارها لحظة مهمة. إنهما يقصدان أن أداء الشعائر يركّز انتباهك على لحظة معينة ويعتبر أنها تستحق الاحترام.
في بريطانيا، حيث نسبة الإلحاد أعلى بكثير منها في الولايات المتحدة، ظهرت منظمات تحيي العبور من مرحلة إلى أخرى في حياة من يعتبرون أنفسهم غير مؤمنين. أمضى العالِم الأنتروبولوجي ماثيو إنغلكي الجزء الأكبر من العام 2011 مع “الجمعية الإنسانية البريطانية”، وهي المنظمة غير الدينية الأبرز في البلاد وتضم أكثر من 12000 عضو، منهم عالم الأحياء النشوئي ريتشارد دوكنز المعروف بإلحاده. ترعى الجمعية عدداً كبيراً من الأنشطة السياسية غير الدينية. يسعون إلى منع المدارس المرتكزة على المعتقد الديني من الحصول على التمويل من الدولة، وإلى إبطال حقوق أساقفة كنيسة إنكلترا بالجلوس في مجلس اللوردات. ويقيمون أيضاً مآتم وحفلات زفاف وتسميات. في العام 2011، أحيا الأعضاء 9000 طقس من هذه الطقوس. يمارس إحياء المراسم تأثيراً على الأشخاص بغض النظر عن آرائهم اللاهوتية.
فضلاً عن ذلك، تنجح هذه الشعائر، إذا كنا نقصد بكلمة “تنجح” أنها تُغيّر انطباع الناس عن حياتهم. يتبين أن التعبير عن الامتنان يجعلك تشعر فعلاً بالامتنان. والتعبير عن الشكر والعرفان يجعلك تشعر فعلاً بالشكر والعرفان. قد يبدو ذلك غريباً بالنسبة إلى عالمٍ تآلف إلى حد كبير مع عدم موثوقية اللغة في شكل عام. لكنه حقيقي.
في دراسة كُلِّف فيها طلاب جامعيون الكتابة بصورة أسبوعية عن أمورٍ تشعرهم بالامتنان أو الشكر؛ أو عن متاعب؛ أو عن “أحداث أو ظروف أثّرت فيكم خلال الأسبوع الماضي”، تبيّن أن من كتبوا عن الامتنان لديهم انطباعات أفضل عن حياتهم، وأنهم أكثر تفاؤلاً بشأن الأسبوع المقبل. وقد صدر لاحقاً عدد كبير من الدراسات المماثلة.
الدين هو في شكل أساسي ممارسة تساعد الأشخاص على النظر إلى العالم كما هو، إنما اختباره – إلى حد ما، بطريقة ما – كما يجب أن يكون. الجزء الأكبر مما يقوم به الناس في الكنيسة – بناء روابط المودّة، الاحتفال بالولادة والزواج، تذكُّر مَن فقدناهم، تأكيد القيم العزيزة علينا – يمكن إنجازه من خلال التعامل مع الله باعتباره استعارة مجازية، أو قصة، أو حتى من دون ذكر الله على الإطلاق.
لكن الدين من دون الله قد يكون أكثر تأثيراً في النفوس. يثق الملحدون بالعلاقات البشرية، وليس بالعلاقات الخارقة للطبيعة، وليس البشر جيدين في جعل العالم كما يجب أن يكون. لهذا تؤثر فينا ربما أناشيد الميلاد التي تصوّر العالم كما يمكن أن يكون، وليس كما نعرفه. فلتحل روح الميلاد عليكم، بغض النظر عن الطريقة التي تفهمون بها هذه العبارة.

السابق
محافظ الحديدة الجديد يقرر دمج الحوثيين ضمن قوات الأمن
التالي
اقفال الطرق في البقاع وحول زحلة… والجيش يطمئن عرسال من اجراءاته