الطيور تلعن البشر

جمانة نمور

يوم خريفي حزين. طيور استشعرت قرب العواصف، وأخذت تتشاور فيما بينها متراقصة بين السحاب، متلمسة طريق هجرة جديدة نحو شمس ما انفكت تغيب لتشرق من جديد. وبين غيابها والشروق، تطوي الظلمات الف حكاية وحكاية، يفتتها الزمان رمادا يذوي مع العمر.

أحسدها تلك الطيور المهاجرة. تعرف طريقها دوما، والمصير. أجنحتها التي تتحدى الريح، تحملها بعيدا عن أي تعلق بمكان، مهما أعطاها من دفء في وقت من الأوقات. غريزة بقائها، تحميها من نقمة انتماء الى وطن، يشدني اليه، مهما علا صوت الزمهرير وقصفت الرعود.

أنين يعيد بصري الى داخل الغرفة. الى ذاك التاريخ المتجسد برجل. أرهقه، أتعبه، أنهكه، وما زال يختبر قدرته على التحمل. وهو، قابع هناك، يحمد ربه كلما سألته كيف الحال. ليست المرة الاولى التي يحل فيها “ضيفا“ على سرير مستشفى. تلك كانت في ريعان الشباب وعز عنفوانه، عندما فجرت عبوة كل الاحلام ومشاريع المستقبل، ودمرت منزل العائلة على رأس قاطنيه.

لحظة واحدة، اختصرته سطرا في أخبار الاذاعات يومها : “أصيب بجروح خطيرة..“ وانتهى الخبر، لتبدأ رحلة عذاب وتحد وصراع. هكذا هي الحروب الأهلية. ضحاياها يتحولون أرقاما، تعددهم وسائل الاعلام او بعض مؤسسات المجتمع المدني. تضع حجرا على رأس الموتى، ويبقى الجرحى منسيون، طول العمر. وحدها المرآة داخل بيوتهم، تذكرهم كل صباح بم جرى، مهما توالت الايام.

تأكلني الحرقة، أخاف أن يراها في عيني، أحول نظري عنه الى السرير المجاور: “كيف حالك ايها العم اليوم؟“

يأتيني صوت متهدج “مررت بأحسن مما أنا فيه، كما مر عليّ أسوأ.” وأخذ الرجل يكمل كلامه، حين لحظ انتباهي الى قدم مقطوعة رفعها في وجهي قائلا : “خسرتها عندما قاموا بتفجير سيارتي في بيروت، وخسرت ابني الشاب أيضا.” حاولت تمالك نفسي عندما أخذ يستذكر أيام الحرب وشقيقته التي “ماتت مع كنتها بقذيفة ضربت بيتهم“، ولم ينقذني سوى قدوم الممرضة.

أنقل الطرف بين الرجلين. ينتميان الى جيل واحد. على يساري أعز الناس. أعلم علم اليقين كيف نفض عنه حكم الاطباء بانه لن يتمكن من ممارسة حياته الطبيعية، ليتعالى فوق الجراح رغم ألم، تحول ظلا له منذ تلك اللحظة. قاد سيارته بعد سنة واحدة من الاصابة، وسلك طرقا وعرة لتأمين القوت بعرق الجبين. وحدها العزيمة ودعم الأقربون، كانوا له عونا في سنين قاحلة. تفاصيل حياة يومية لا تتسع لها الكتب، وتقصّر في وصفها الحروف. تُرى، أي قصص تحملها تجاعيد الرجل الآخر؟ أتساءل.

تزدحم الأفكار في رأسي. أحاول أن أفهم لماذا وكيف ومتى. لماذا يدفع الانسان العادي، اللاهث وراء عيش كريم، ثمن الحروب والصراعات دوما؟ كيف تنام الضمائر وتتغاضى البشرية عن مجازر وضحايا تتساقط أوراق خريف في ربيع العمر؟ متى تتحول رياح التغيير إعصارا، يقتلع كل فاسد ومفسد ومستثمر لاوجاع الناس؟

يتحول انتباهي من جديد الى خارج الغرفة، يطير مع العصافير عابرا الحدود شمالا هذه المرة. حيث كارثة العصر الانسانية. في سوريا، أوقفت المنظمات العالمية عدّ الضحايا قبل عام تقريبا. وتشير آخر الاحصاءات التقريبية لمنظمات المجتمع المدني، الى سقوط جريح كل عشر دقائق. طفل، إمرأة، رجل أو كهل، لا يهم. إنه جريح-انسان بكل تاريخه وحاضره وما يخبيء له المستقبل. إنسان “يسقط سهوا“ من حسابات “الكبار“، ولا يملك الا انتظار حسابهم في “يوم القيامة“.

غدا يوم خريفي آخر. سيكون بلا طيور، لانها قررت الاضراب عن الطيران، احتجاجا على بربرية الجنس البشري.

السابق
ظريف: العالم لم يعد يدقّ طبول الحرب ضدّ إيران
التالي
نعيم حسن: لمسار جدي تفاوضي بدل الاستقواء على أهالي الجنود الأسرى