«المكتبة الوطنية»: المرحلة الأخيرة

يرتكز تأريخ تأسيس «المكتبة الوطنية اللبنانية» على شخص فيليب دي طرّازي وحده. الرجل، على ما يقول مؤرِّخو سيرته، قام بجهد فردي لخلق ما كان يُسمى «دار الكتب»، في منزله، في العام 1919. وهي مقتنياته الخاصة من الكتب والوثائق النادرة. وهذا الحب، الفردي أساساً، تحوّل هماً عامَّاً في سنوات لاحقة، بعد انتقالها إلى مدرسة «الدياكونيس» في وسط بيروت، وتبنتها السلطات الرسمية اللبنانية في 8 كانون الأول 1921 وربطها بمديرية المعارف العامة. لكن دي طرّازي، الذي قام برحلات عديدة بين أوروبا ومصر، لجمع الكتب والهبات، قرر الاستقالة من منصبه في العام 1939. وبدا، في مسار التاريخ، كأنه سلم المكتبة إلى آخر توسّعاتها المكانية. إذ أن العام 1937 شهد انتقالها إلى مقرّ جديد، في مجلس النواب في وسط بيروت، أنشأه خصيصاً المهندس مرديروس الطونيان، لتضم مجموعة مؤلفة من 32 ألف كتاب.

والفيكونت دي طرّازي، الذي يظهر في صورة مرفقة بخبر افتتاح المكتبة في مقرها الجديد، في جريدة «الشعلة» البيروتية، رجلاً لا يجد في صدره مكاناً فارغاً لنياشين جديدة، وصف جهوده  جريدة «الشعلة» البيروتية، كاتب الخبر، بـ«عمل عظيم لم يقدم على مثله لبناني، ولا جرى بمثل سرعته بعد». لكن طرّازي، المولود في 1865، توفى سنة 1956 ودفن في مقبرة السريان الكاثوليك. وهذا ما كان خيراً له، في حسابات أخرى. عقدان إضافيان، وشغل دي طرازي، الذي تعاقب عليه مديرون آخرون، سيقترب من الخراب. مثله مثل البلد كله. هكذا، عطل العمل في المكتبة العام 1978، بعدما فقدت 1200 مخطوطة نادرة. ونقلت في العام 1983 محتوياتها إلى «قصر الأونيسكو». وهذا النقل، إلى مكان آمن، لم يكن، في حسابات ما بعد الحرب، خياراً سليماً نتيجة التلف الذي أصابها.

جيرار خاجريان
لم يترك جيرار خاجريان عمله في إعادة تأهيل «المكتبة الوطنية»، ثم النهوض بها، منذ العام 2001. وهاتان خطتان منفصلتان، زمنياً، كلف بالإشراف عليهما، من جانب وزارة الثقافة. وهو كان قد بدأ تعاونه مع الوزارة، في عهد وزيرها الأسبق غسان سلامة، مكلفاً الاهتمام بالجانب التنظيمي للقمتين الفرنكوفونية والعربية. وكان تنظيمهما، في قياس آمال تلك السنوات، إعادة للبنان إلى السياسة الدولية. حقق خاجريان، كما في روايته سيرته، قمة أولى تحمل صفراً من الأخطاء، وثانية بلا أخطاء تذكر. وكان التحدي في التمكن من إدارة تسلسل من الموظفين والمتطوعين، وصل عددهم إلى أربعمئة شخص.
بدا خاجريان، كما في توصيف له ينقله عن سلامة، مثقفاً لكنه، أيضاً، إدارياً جيداً. وهذا ما يحيل إلى تجربة أبعد، قياساً ونوعاً، في سيرة خاجريان. إذ انه عمل نحو أربعين عاماً في مصرف، بمختلف تدرجاته الوظيفية. وتلازم المالي والاقتصادي بالثقافي، ما يبدو دائماً مستغرباً. لكنه عند الأرمن، كما يبرر بنفسه، أمر طبيعي. «نحن نُسأل دائماً، ضمن مجالنا الخاص، ماذا نفعل إلى جانب وظيفتنا؟». هكذا، اهتمّ خاجريان بالتفاوض مع «الاتحاد الأوروبي» للحصول على تمويل لإعادة تأهيل المكتبة، وهو ما تجاوز قدره المليون يورو. وتأمين تمويل، وإعادة تشغيل المكتبة، كان حلماً لكل العهود. لكنه لم يصل مرة إلى مراحل عملية.
نقلت مقتنيات المكتبة من الأونيسكو إلى سن الفيل. ولاحقاً إلى مبنى «الجامعة اللبنانية» في الحدث، حيث عُقمت. ووصلت أخيراً إلى السوق الحرة في مرفأ بيروت، مكانها الحالي. وبدأت محترفات العمل: التنظيف، الجرد، التصنيف، الفهرسة، وأخيراً الترميم. وهو عمل ترافق مع سعي لتنمية مجموعات الكتب والبحث عن النواقص. وكان في البداية دور مهم لـ«الجمعية اللبنانية للمكتبة الوطنية»، قبل انتهاء دورها. هكذا، يبدو خاجريان، أخيراً، وحيداً في إدارة المشروع. وهذا ما يحمل أيضاً بعض الإسقاطات التاريخية. لكن خاجريان لا يحبّ الحديث، عموماً. وهو يقول إنه أقل الأشخاص أهمية في المشروع. وهذا الابتعاد، وفي تبريره ابتعاد عن ميزة في «الشخصية اللبنانية»، لا يبدو في آخره شيئاً جيداً. وهو يكتفي، في تقييمه لنفسه، أن يصرح بأنه لم يفشـل في مشروع شارك فيه منذ عشرينياته. وهو لا يقبل في مشروع المكتبة الوطنية، مفترضاً بنفسـه أنها آخر مهماته، إلا نجاحاً آخر.
والحال أن خاجريان، في ما يقوله من سيرته، عدا اهتمامه في ترميم الجداريات، رافق تأسيس المسرح اللبناني الحديث. فهو، في أول الستينيات، كان حاضراً في مشروع المسرح الجامعي، الفرنسي اللغة، الذي انطلق منه جرار خوري وروجيه عساف وغيرهما.

الموظفون
لم يكن سهلاً الوصول إلى متخصصين عند انطلاق مشروع إعادة تأهيل المكتبة. كان التدريب ضرورياً. لكن العائق كان في محاولة فرض أشخاص في غير ما يستحقون أو يلزمون. وهو ما يحيل إلى حديث اجتماع الطوائف والمحاصصة اللازمة بينها. غير أن الفريق، في آخر الأمر، وُجد. «وهذا من دون الخضوع لتوظيف ما لا حاجة لنا به»، يقول خاجريان.
وبدأ العمل. لكن في نهاية مشروع التأهيل الأول، تأخّرت الحكومة في إطلاق مشروع النهوض، لمدة ستة أشهر. هكذا، اضطر فريق العمل لإيجاد وظائف جديدة. وكان انطلاق مشروع النهوض يعني تكوين فريق جديد، بشروط توظيفية غير مغرية، كما في المرحلة الأولى. يعني، أنهم غير مثبتين. ولا حتى يشتغلون على الفاتورة، وهو ما يمكن أن يصنف في أدنى مراتب التعامل. وهذا ما كان في المشروع السابق ويستمر اليوم. يقبضون على المهمات. ولم تنجح محاولات خاجريان في حل هذه المشكلة. لكنه، في الحد الأدنى، يعد أن لهم الأفضلية في التوظيف عند انطلاق المكتبة. وهذا أقل ما يمكن أن يفعله لهم، على ما يقول.

زوار المكتبة في يوم «الأبواب المفتوحة»
حققت المحترفات، تقريباً، 80 في المئة من مهماتها. لكن تسليم مبنى كلية الحقوق السابق، في الصنائع، والذي يرمم بهبة من أمير قطر، ليس مؤكداً توقيته. لم يُلتزم بالمواعيد التي طرحت سابقاً. لكن آخر ما أعلن كان نهاية شهر أيلول المقبل. وهذا موعد يعتقده خاجريان صائباً إلى حد ما هذه المرة. لن تفتح المكتبة أبوابها سريعاً للقراء. وهي، في طورها الجديد، ستسلك درباً أكثر بيروقراطية في العمل، وخاصة لجهة تأمين موظفين وتنظيم آليات العمل. لكن محترف الأشغال التأهيلية، في مرفأ بيروت، سيفتح أبوابه في 7 حزيران المقبل أمام الزوار. وهذا ما حصل في العام الماضي أيضاً. وهي فرصة للمهتمين للتفرج والاستفسار عن أعمال المحترف وآلياته.

السابق
..اعتدى عليهما جنسياً في عدشيت القصير
التالي
النهار: الجهود المسيحية لمنع الشغور تواكب مساعي الانتخاب