المنطقة العربية في مهب الأطماع الإيرانية

منذ شهور خلت، عندما كانت المعركة الضارية في سوريا قد بدأت تتخذ منحىً خطيراً ليس لجهة ارتباطها بالنوازع المذهبية التي أذكى نارها تدخل «حزب الله« اللبناني في الصراع تحت شعارات فئوية هي أقرب للذرائع التبريرية منها للدوافع المقنعة للرأي العام فحسب، بل بدأت تطفو على السطح وفي ساحات القتال وجوه فصائل مسلحة هجينة باسم الاسلام السياسي المزعوم، ولا تمت بصلة عضوية للواقع السوري، كنا نشير بحق الى «القاعدة» كتنظيم مسلح جرى إقحامه وحشره في الوضع السوري المهترئ. لم يكن المقصود على الاطلاق «الجبهة الاسلامية» المعارضة المسلحة التي انضمت للمعارضة الثورية المسلحة وعمودها الفقري الجيش السوري الحر، ولا حتى «جبهة النصرة» الاسلامية التي تواءمت مع الأهداف الكبرى للمعارضة العامة وعلى رأسها وجوب تنحي بشار الأسد عن الحكم. فلهذه الفصائل دوافع دينية، وعقائدية اسلامية بالامكان تفهمها وتقبلها خاصة عندما نسترجع بالذاكرة، وبالقراءة التاريخية الموضوعية لكل تاريخ النظام الأسدي في مرحلته المشؤومتين، هذا النظام الذي أدخل الحياة السياسية في سوريا باللجوء الى فرض نظام ديكتاتوري قمعي استبدادي في دهليز أسود لم يكن الخلاص منه ممكناً إلا باللجوء الى الانتفاضة المسلحة.

فعندما راحت الأحزاب الوطنية والعلمانية تتعرض للتعذيب والبعثرة والتفتت والتضييق ويصفى قادتها وكوادرها بل محازبيها في غياهب السجون والمعتقلات أو يكرهون بشتى الأساليب والطرق الأسدية المعروفة لاختيار طريق المنفى، وعندما دمرت مؤسسات المجتمع المدني عن بكرة أبيها، وجرى القضاء، على امتداد 40 سنة من الظلام، على روح الممانعة والاعتراض والرفض المعلن لهذا الواقع المخيف كان من الطبيعي أن يلجأ جانب من أحرار سوريا الى المعين الديني الايماني كآخر ملاذ لهم لمواجهة الطغاة وزبانيتهم وأجهزة الأمن المتشعبة السرطانية في طول سوريا وعرضها. بل شهد لبنان نفسه في الفترة الحالكة إياها حصة وفيرة من ممارسات هذا النظام القمعي الحالك السواد، حيث كانت ذروة هذه الممارسات اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وسلسلة مخيفة من الاغتيالات والتفجيرات المماثلة. فكان الهدف منها تصفية وقتل كل روح أو نزعة أو ميل ما زالت تؤمن بلبنان مستقل معافى من الاحتلال والوصاية.

إن الدور البالغ الخطورة الذي يلعبه النظام الايراني في منطقتنا العربية لإحكام سيطرته عليها، والذي سعى ما أوتي بكل ما يملك من وسائل ابتداء بثروته النفطية ومروراً بشعاراته الدينية وادعاءآته السماوية وإذكائه الروح المذهبية وانتهاء بنشاطه النووي العارم ليس آيلاً ليتوقف في المستقبل المنظور. فقد ترجم عملياً دعوته المزعومة للثورة الاسلامية بمشروع متكامل لتقويض أوضاع جميع البلدان العربية في المنطقة، وذلك أن الوصول الى المتوسط ومقاسمة اسرائيل النفوذ والسيطرة هو الهدف الرئيسي. وفي سبيل ذلك عقد تحالفه الاستراتيجي مع النظام الأسدي الذي، بعد سقوط المنظومة الاشتراكية وغياب الاتحاد السوفياتي، وجد ضالته في نظام رجال الدين في طهران، رغماً عن مزاعم دمشق العلمانية التي في حقيقتها ليست سوى الصورة المرئية المخادعة لحقيقة النظام الفئوي المذهبي الممسك برقاب الشعب السوري. ومن أجل ذلك جرى تصفية المقاومة الوطنية اللبنانية وإلغاؤها ليصبح «حزب الله« وحده هو المقاومة.

وعندما وصلت طهران ودمشق الى استنتاجات نهائية، بعد انسحاب اسرائيل من شريطنا الحدودي المحتل عام 2000، ان عودة الحياة من جديد تدب في أوصال الاقتصاد اللبناني ومؤسساته ويتحول لبنان الى ورشة جدية للانماء والاعمار، كمقدمة لاستقلال لبناني الثاني وبانيه رفيق الحريري جرى الإطاحة به عبر جريمة متقنة بربرية فيها الكثير الكثير من بصمات النظامين الحليفين وأدواتهما على أرضنا.

النظام الايراني كان وراء كل الأحداث الموصوفة المدعمة بالوقائع التي لا يرقى اليها الشك، فهو الذي حاول وما زال زعزعة الأوضاع في الكويت ثم في البحرين، وهو الذي أنفق المال الوفير لشق الساحة الفلسطينية، وهو الذي عزز ونمّى النوازع المذهبية في شرق المملكة السعودية. بل هو الذي عقد اتفاقاً شيطانياً مع «الشيطان الأكبر» (بحسب أدبياته الاعلامية) مع قوات الاحتلال الأميركي في العراق العازمة على الانسحاب. بل هو أيضاً الذي امتدت أصابعه حتى اليمن لإذكاء الاقتتال المذهبي والقبلي هناك، بالمال والسلاح والذخيرة. وهو الذي في اللحظة التاريخية الراهنة لا يكتفي بتمويل وتغطية صفقات الأسلحة الروسية المتدفقة على سوريا فحسب بل ما زال يرسل قواته العسكرية من الحرس الثوري الايراني الى سوريا، بالإضافة لقوات لواء أبو الفضل العباس و«حزب الله« اللبناني.

لقد كانت أجهزة الاستخبارات الأميركية على علم طيلة المرحلة السابقة بالعلاقة التي تربط نظامي طهران ودمشق بتنظيم القاعدة، وكيف جرى تجميع فلولهم بعد حرب أفغانستان في معسكرات سرية في إيران بل في سوريا نفسها، لاستخدامهم عند الحاجة سواء في العراق (الأنبار) وفي شرق سوريا وشمالها. إن خيطاً رفيعاً يربط بإحكام النشاط الارهابي الذي تندفع فيه «داعش» و»القاعدة» لتطلقا النار في ظهور الجيش السوري الحر خدمة للنظام الأسدي. فالتظاهر الأميركي المفاجئ بالعثورة على الأدلة القاطعة في هذا المجال لا ينطلي على الشعوب العربية.

إن نظام طهران الذي اقتبس حتى التطابق والتماثل الآلاعيب الأميركية في خلق ما يسمى «الفوضى الخلاقة» في منطقتنا يساوق الآن بين خطين متوازيين: الأول المضي قدماً في الاتفاق النووي مع الغرب مع اللجوء الى بعض المساومات «الذكية» و»المخادعة» حول بعض المنشآت النووية إرضاء لصقور الحرس الثوري الايراني وقائده قاسم سليماني، وذلك درءاً للعقوبات الاقتصادية الخانقة وكسباً للوقت.

والثاني: الاستمرار وبإصرار وعناد لا مثيل لهما في سياسة زعزعة الأوضاع في البلدان العربية والتدخل السافر في شؤونها الداخلية، فالحرب الضارية مستمرة في شمال اليمن، وضربات القاعدة لا تهدأ في العراق وسوريا بل وصولاً الى لبنان.

هذا هو جوهر الصراع القائم في منطقتنا العربية الآن، حيث نصيبنا اللبناني منها هو استمرار الأزمة الخانقة على كافة الصعد، فلا يضللنا قط الاعلام الأميركي عن تلكؤ سوري أسدي في تسليم مخزونه الكيماوي في الوقت الذي تمطر فيه قوات الأسد الجوية حلب وسواها ببراميل المتفجرات، وتطلق عساكره النار على قوافل الإغاثة على حمص ولا يصل مخيم اليرموك المحاصر سوى ما ندر من المساعدات.

السابق
قلقٌ من إطالة المحاكمة الدولية بعد ضمّ مرعي
التالي
سوريا والمسؤولية العالمية