جوزف حرب: لماذا خذلتنا؟!

… ولكن “أجمل ما في الأرض أن تبقى عليها”، فلماذا خذلتنا أيها الفارس المفرد وغدرت بنا فرحلت بلا وداع محكماً فينا مزاجك المفرد “طالع ع بالي فلّ”…
وكنا قد ارتضينا منك أن تبقى ولو بعيداً، فإذا ما هزنا الشوق قصدناك في ديوانك المفتوح دائماً على الحب فوق “المعمرية” تغني صيدا بحنينك إلى مهدك في الناقورة على بُعد شطرين من صور وعلى قرب آهين من جزين تكاد تسمع “المصرع” في عاشوراء النبطية وأنت في الطريق إلى دير مشموشة ترن في مسامعك أجراس القدس.
ولطالما انتظرناك فلم يصلنا غير ظلك وأنت تجتاح بيروت قاصداً الشام التي عاشت معك بصوتك عالي البحة أو بترنيمات فيروز حاملة وطن الرحابنة منها وإليها، فإذا ما عدت فإلى جنوب الجنوب لتغني المقاومة التي جعلت إنجازها ديواناً خالداً في عشق الأرض، أمّنا وعنوان العزة.
أيها الذي عاش عمره مزيجاً من العاشق والشهيد، العاشق والقديس، العاشق والأرض التي تنبت الحب والقمح والبيلسان وورود السرير التي ستغرق فيها أسراب الفاتنات وقد خرجن من دواوينك عرايا إلا من النشوة، في حراسة “شيخ الغيم الذي عكازه الريح”.
أيها الشاعر الفريد مثاله غزارة ونبلاً والذي لم يغادر قلبه قلمه مرة، بل جعله أمامه دائماً يسحر الناس فيخرجهم في تظاهرة ممتدة بين عصرين، ثم يعيدهم واحداً واحداً إلى مملكة الخبز والورد.
ولقد وعدتني، وأنا من الغاوين، أننا سنكون معاً، وأنك سوف تسمعني البيت الأول من القصيدة ـ النهر، وأنك سوف تكمل الديوان في “السفير”… وهكذا ظلت علاقتنا الحميمة معلقة بين شطري “البيت” الذي لما يجد “قافيته” في بحرك الممتد ما بين البحتري وديك الجن.
وكان آخر وعودك أن تكتب لها وعنها وهي تخطو سنتها الأولى بعد الأربعين… ولم يخطر في البال أن نملأ “السفير” بالحديث عنك غائباً وطيفك يحوم حولنا قارئاً علينا شعرك فيستحضر “العيد”.
… وسمعتك خطيباً ترثي من سبقك فتسلق شعره إلى جنته فإذا المرئي يشق قبره لينتشي بالشعر مرة أخرى وأخيرة.. وسمعتك داعية فإذا صفوف جمهورك تكاد تخرج باحثة عن السلاح حتى لا يفوتها موعد المواجهة المرتجاة مع العدو الذي كان قد اعتاد أن يهزمنا بغير قتال، فلما حضرنا احترقت دباباته ببركان الأرض المقدسة وانسحب طائراً بأجنحة الخوف.
وقرأتك عاشقاً في دواوينك التي اتسعت لنساء الأرض جميعاً في صورة مَن أحببت، وقرأت أبياتك التي من آهات وتنهدات ونسمات تحملها النورسات التي كنت تستعرضها كل صباح وكأنها أسراب من الشعر المنثور ينتظر من يمنحه رنين الموسيقى التي تختزن… ولقد التقيت بعض الجميلات من مرهفات الحس الآتيات من أمسياتك وقد انتشين وكأن كلاً منهن في موعد حبها الأول.
ولقد جمعتنا قربى بلا رحم، فكلانا “ابن الدركي” الذي قرأ أكثر مما تعلم، والذي حفر كلماته الأولى في الصخر فأخرج معك زهراً وأخرج معي شوكاً، ولكننا كتبنا الناس أنت في تجلياتهم الممتعة في قلب العشق وأنا في همومهم الأثقل من أن تحملها الكلمات.
على أنها أيام للحزن أيها الصديق النبيل الذي سيتزاحم الكتبة الآن على رثائه، وهم هم الذين تجاهلوه في حياته مدعين أنه قد عزل نفسه في صومعته يسهر مع طيف عاصي الرحباني على صوت فيروز مستدعياً حريمه ليأنس إليهن فيسمعهن أحزان محمد الماغوط وحداء طلال حيدر ثم يتركهن للهوى والشباب مع الأخطل الصغير، ويذهب إلى النوم.
لقد غادرتنا ونحن نخرج من الهزيمة إلى الحرب الأهلية… ولكنك أوصيتنا بألا نيأس وألا نهجر “الميدان” الذي قد تحتله الفوضى زمناً ما قبل أن نسمع صرخة ميلاد العصر العربي الجديد الذي طالما بشّرت به.
جوزف حرب: سنظل نقرأ غدنا في ديوانك ـ البحر، وسنظل نقصد “المعمرية” لنسمعك تقرأ شعرك فتصير الريح موسيقى فرح تراقص النورس المبشّر بقرب الانتصار بالأرض وإنسانها الذي بغير الحب والشعر والإيمان بذاته لا يمكن أن يخرج من جحيم الهزيمة.
جوزف حرب: إلى اللقاء، أيها الذي سافر بغير وداع.

السابق
هل صارت سوريا حلماً؟
التالي
الجمهورية: الجيش يلاحق عددا من الأشخاص ينتمون إلى منظمات إرهابية