أخضر الملاعب المدفوعة يسرق

في الماضي، كانوا يملأون الأحياء ضجيجاً وصراخاً بسبب هدف أو خطأ غير محتسب. كانوا يحوّلون الأحياء الداخلية إلى ملاعب كرة قدم، تفوق أهميتها بنظرهم أهم الملاعب العالمية. كانت الحجرة هي العارضة، وملاعب الإسفلت هي العشب الاصطناعي، والحكم هو أول من يصرخ مطالباً بـ"فاول". الآمر الناهي كان من يمتلك الكرة في منزله. قوّة تمكّنه من إلغاء المباراة من أساسها، حسب مزاجه في اللعب، أو تعطيل دوري الأحياء إلى أجل غير مسمى، بسبب وجوده خارج المنزل.
قوانين الشارع
يتذكر حسن تلك الأيام ويعتبر أنها كانت الأجمل والأكثر متعة. "كنا نجمع أنفسنا ونحوّل أي فسحة إلى ملعب كرة لا قوانين فيه. تنتهي المباراة حين نتعب، أو يرمى علينا كيس ماء من الجيران لتفريقنا، بسبب الإزعاج الذي نسببه، أو يأتي إلينا أحد قبضايات الحي ليهددنا ويطالبنا بالعودة إلى منازلنا".
نجيب بدوره يستذكر الأيام الماضية. كانوا يشكلون فريقاً من كل حي ويمارسون كرة القدم في الشوارع. "كنا نلعب وقت ما بدنا، اللعب على الرمل والزفت أحلى من ملاعب العشب الجديدة". يضيف ان الولد كان يخلق مساحة له أينما حل. اليوم لم يعد يستمتع بمكان ضيق يحجز حريته ويجبره على دفع المال مقابل هواية يجب أن يكون تحقيقها مجانيا. "تحسين" شروط الملعب لا يلقى استحسان نجيب. العشب المستخدم في الملاعب سيئ. هو ليس عشبا أصلا، بحسب خبرته: "هيدا باطون أو زفت مغطى بموكيت عشب صناعي رقيق".
اللعب.. تجارة
عفوية هذه الرياضة تبدو كأنها تختفي يوماً يعد يوم. ففي بعض مناطق العاصمة والأحياء، تنتشر ملاعب رياضية، تؤجر لأي فريق يريد تنظيم مباراة شبه رسمية، أو لمجرد مجموعة من الأصدقاء يريدون لعب "الفوتبول". ملاعب عشبية خضراء، مرسومة، قريبة شكلياً من ملاعب الكرة الرسمية، يمتلكها لاعبو كرة قدم سابقون أو مستثمرون وجدوا في هذه الرياضة استثماراً مربحاً. يقول علي إن متموّلين كثراً وجدوا أن مأسسة كرة الأحياء وإخراجها من عفويتها مشروع مربح على جميع الأصعدة، يوازي بجدواه أي استثمار تجاري. مشاريع تقدّم خدمة بثمن مدفوع مسبقاً، لا يستطيع أي كان تحمله، ويرتب على الأطفال مصروفا يضاف على "خرجيتهم" المحدودة أصلاً.
صفّارة النهاية
في ملاعب الـ"دوم" في منطقة الشياح، يقول أحد الموظفين إن تجربة هذه الملاعب ناجحة جداً في الأحياء، وخاصةً في هذه المنطقة، وهي تشهد إقبالاً كبيراً من جميع الفئات العمرية ومن مختلف الطبقات الاجتماعية، فالأسعار تناسب الجميع. يضيف الموظف أن الإدارة تأخذ بعين الاعتبار أوضاع الجميع، مشيراً إلى أن سعر تأجير الملعب للصغار في العمر رمزي مثلا. قبل الاستفاضة في شرح محاسن ملاعبه، يقاطعه طفل يعترض على عدم تمديد الوقت. المباراة انتهت بالتعادل بين الفريقين، وهو يريد وقتاً إضافياً لتحديد الفائز. مطلب لا يتم التجاوب معه، نظراً إلى وجود حجز آخر للملعب لن يسرّ أصحابه بالانتظار ريثما تحسم نتيجة المباراة. يطلق المسؤول صفارته معلناً نهاية فترة اللعب، قاطعاً بذلك آخر خيوط الأمل المتبقية لدى الطفل ورفاقه، ليؤجلوا بذلك الحسم إلى مباراة لاحقة، قد يطول موعدها إلى الأسبوع المقبل.
يعترض الطفل حسين منصور على محدودية الوقت في هذه الملاعب. "ساعة واحدة ليست كافية لإشباع حاجتنا من متعة كرة القدم". وعند سؤاله إن كانت أسعار الملعب مناسبة يجيب بنعم، "هنا الريس برخصلنا الأسعار وبيعطينا أحلى طابة". الشاب محمد ترحيني (16 سنة) يضيف متأسفا: "كنا نلعب في الحيّ، لكن بسبب بناء معرض سيارات على الأرض، اضطررنا إلى ممارسة هوايتنا في الملاعب العشبية التي نستأجرها مع أصدقائنا".
الأب الروحي
الكلام عن كرة القدم في الأحياء، وخاصةً في منطقة الشياح، لا يمكن أن يمرّ من دون مقابلة "الأب الروحي"، "أبو عضل"، الذي كان أول من افتتح ملعبا رمليا في المنطقة عام 1978. وكان يؤجره بأسعار رمزية للشباب، وفي بعض الأحيان مجاناً. أبو عضل الذي خرّج أهم لاعبي الكرة في لبنان، ويستذكر منهم وسام كنج وموسى حجيج، ينتقد ظاهرة الملاعب العشبية التي تقتل المتعة بحسب رأيه، كون الربح المادي هو هدفها الأول. ويستبعد أن تتمكن هذه الملاعب من تخريج لاعبي كرة قدم حقيقيين.
اضطر "أبو عضل" إلى بيع ملعبه لمستثمر حوّله إلى أرض عشبية تؤجر بالساعة. ويتوقع أن تنتهي لعبة كرة القدم في لبنان بعد عشر سنوات، والسبب هو اختفاء لعب الضواحي العفوي في الشوارع والباحات.
"كامب نو".. الساقية
الأسعار المقبولة نسبياً في بعض ملاعب الأحياء تنقلب إلى أسعار "خيالية" في سواها، خصوصا في ملاعب العاصمة. تتمتع هذه بتقسيم هندسي مميز يتنوع ما بين كرة سلة وكرة قدم، مع ملاعب كثيرة متاحة بمساحات مختلفة.
يرسل نديم كرة جميلة إلى زميله الذي يبرع في تسجيلها في مرمى الخصم، في ملعب حديث في ساقية الجنزير في بيروت، قبل أن يأخذ استراحة قصيرة. "منستأجر الملعب بسبعين دولار بالساعة، ومنقسم المبلغ علينا". يسترسل بالحديث مشيراً إلى بدلات برشلونة الرسمية، التي اشتراها كريم من ملعب "الكامب نو" في برشلونة بعد أن شاهد الـ"كلاسيكو" الأخير مباشرةً. "الأسعار هون ما بتناسب كل العالم، مش هيك يا جاد". جاد، في هذه الأثناء، غارق في مكالمة على هاتفه الذكي "آخر موديل". لا يردّ، فيكرر كرم السؤال مرارا. ينهي جاد مكالمته، ويستدير مجيبا بتأفف: "خلّصنا هلق، وين بدكن تسهروا اليوم؟".  

السابق
الخطيب: الغرب يسعى إلى سايكس بيكو جديد
التالي
في رعاية الأمير بندر