هل بدأت “الوليمة الدولية الكبرى” في الشرق الأوسط؟

 

– I –
في منتصف القرن التاسع عشر، بعث دبلوماسي تركي بارز في فيينا برسالة عاجلة إلى الباب العالي في إسطنبول جاء فيها: " ثمة وليمة دولية كبرى قد الإعداد. وما لم تجهد الدولة العثمانية لتشارك فيها، ستوضع هي على لائحة الطعام".
العثمانيون عائدون (الصورة من غوغل

هل إشتم الأحفاد السياسيون لهذا الدبلوماسي، كرجب طيب أوردوغان وغل، روائح وليمة كبرى جديدة مشابهة في القرن الحادي والعشرين، فإندفعوا بكل طاقتهم ليفرضوا وجودهم فيها كضيوف لا كلائحة طعام؟
حتماً. وهذا يفسّر الحيوية الدبلوماسية الكبرى التي تشهدها تركيا منذ سنوات عشر في المنطقة الشاسعة التي ستطاولها هذه الوليمة، والممتدة من  سواحل المنطقة العربية إلى سهوب جنوب القوقاز، مروراً ببحر قزوين وآسيا الوسطى وإيران.
" إنها مجدداً "اللعبة الكبرى" التي تحدث عنها ضابط الإستخبارات البريطاني آرثر كونولي في توصيفه الصراع المرير بين الامبراطورتين الروسية والبريطانية للسيطرة على آسيا الوسطى قبل قرنين، والتي خلدّها الأديب الأنكليزي روديارد كيبلينغ في روايته الشهيرة " كيم" العام 1901. وهي لعبة تصطرع فيها معركة " الحياة والموت " للسيطرة على النفط الذي بات سلعة نادرة في عالم مدمن على إستهلاكه بكثافة، والحروب الإيديولوجية، والسباق على الزعامة الإقليمية؛ وتغذيها المخاوف من تقسيمات وخرائط جديدة للشرق الاوسط .
حزب العدالة والتنمية " ذو الجذور الإسلامية" ، كما يقال، الذي يتزعمه رئيس الوزراء الكاريزمي أوردوغان، وضع منذ وصوله إلى السلطة العام 2002 إستراتيجية  مثلثة الرؤوس لمواجهة هذه اللعبة: التماسك والسلام الداخليين، الشرعية الإقليمية، والتعاون الوثيق مع أميركا وأوروبا.
النقطة الأولى تمثلت بالجهود المكثفة التي بذلها الحزب، ولا يزال، لمحاولة معالجة القضية الكردية المتفجرة في هضبة الأناضول بالعقاقير الإسلامية التي تعترف للاكراد ببعض حقوقهم الثقافية واللغوية، على عكس الحلول الطورانية التي تعتبر الأكراد مجرد" أتراك جبال" وتدعو إلى دمجهم بالقوة في النسيج القومي التركي.
في الوقت ذاته، ينشط الحزب لإقامة توازن  بين العلمانية والإسلام، بعد سبعة عقود من الهيمنة الكاسحة للأولى  على الثاني. وهذه معركة لن تكون سهلة على الأطلاق قد يتهدد فيها مصير تركيا برمته.
فالمؤسسة العسكرية  والبيروقراطية المدنية الكمالية العلمانية لاتزال تشعر بالقلق من عودة الإسلام السياسي إلى الساح التركي، ليس لأنه قوة لاليبرالية معادية للديقراطية وللحضارة الغربية، بل لأنهما تعتبرانه مصدراً لضعف إستراتيجي مشل. وهذه قناعة ورثها الكماليون من  قراءتهم لتجربة الإمبراطورية العثمانية في أواخر أيامها، حين فشلت الإيديولوجيا الإسلامية في الحفاظ على وحدة " الامة " وفي منع الإمبرياليات الغربية من تمزيق جسدها. الجمهورية العلمانية التي أسسها أتاتورك بعد الحرب العالمية الأولى لم تكن، في هذا الإطار، ثورة ديمقراطية ليبرالية وفق القيم الغربية،  بل كانت محاولة أخيرة من العثمانيين المسلمين للحفاظ على جزء( الأناضول)  من الإمبراطورية المتهاوية كدولة مستقلة عن الدول الغربية الكبرى. المحاولة نجحت على يد العسكر التركي، وهذا ما منح هؤلاء شرعية قومية مكنتهم من فرض العلمانية اللاديمقراطية، ومن إعتبار الإسلام قوة رجعية تعيق دخول الوطن التركي إلى الحداثة عبر الإندماج بأوروبا.
الإسلاميون الجدد، وهذا قد يكون الوصف الدقيق لحزب أوردوغان، أفادوا من التجارب الفاشلة للإسلاميين القدماء بزعامة نجم الدين أربكان، فأعلنوا قبولهم بالطابع العلماني للدولة وبإنتماء تركيا إلى الغرب، لكنهم في الوقت ذاته إستخدموا سلاح " التغريب" هذا ضد العسكر المتغربنين.
 كيف؟ عبر العمل بكثافة لتحقيق الأصلاحات الديمقراطية والليبرالية التي يطالب بها الإتحاد الاوروبي كشرط لقبول عضوية تركيا في صفوفه، وعبر تقديم أنموذج إسلامي تركي يتحقق فيه( وفق تعبير أوردوغان) " التوازن بين الإسلام والديمقراطية والعلمانية والحداثة"، وأيضاً عبر توثيق الصلات مع الولايات المتحدة.
هذا التوّجه أصاب العسكر الكمالي بالحرج، ومنعه من تكرار تجارب الإنقلاب العسكري الأربع في الفترة بين 1960 و1997، خاصة بعد أن قفزت حصة حزب العدالة في البرلمان في إنتخابات 22 تموز يوليو 2007 من 34 في المائة (العام 2002 ) إلى6، 46 في المائة. بيد أن التوتر لايزال قائماً بين الطرفين، وهو يعكس نفسه في مجال السياسة الإقليمية التي يحاول كل طرف فيها إستخدام الظروف وموازين القوى لصالحه.

 

– II –

على رأس هذه الظروف المسألة الكردية التي يبدو أن أردوغان بدأ يخوض فيها مغامرة في غاية الخطورة في كل المجالات الاستراتيجية والإديولوجية والجيو-سياسية. وهي، بالمناسبة، مغامرة تندرج في إطار"مبدأ العمق الإستراتيجي" الذي طرحه أوردوغان كمحور لسياسة تركيا الخارجية، والذي ينص على أنه إذا ما أرادت أنقرة أن تلعب أدواراً عالمية وأن تعزز فرص إنضمامها إلى أوروبا، فعليها أن تقوم بدور كبير في محيطها الشرق اوسطي العربي- الإسلامي وأيضاً في القوقاز- قزوين، وأن تكون بالفعل لا القول الجسر الرئيس ( والوسيط الرئيس)  للغرب إلى الشرق.
هذا التوّجه الجديد يفترض أن تطوي فيه بلاد الأناضول  سياسة " الحياد السلبي " الذي مارسته إزاء الشرق الاوسط طيلة نحو سبعة عقود( عدا جزئياً في مرحلة توركوت أوزال) لتفتح صفحة " التدخل الإيجابي.
بالنسبة إلى المسألة الكردية، عنى ذلك قيام تركيا بوضع أكراد العراق وسوريا تحت حماية مظلة نفوذها الإقليمي، ثم استخدام هذه الورقة لإقناع أكراد تركيا بقبول ما هو أقل بكثير من الاستقلال أو الحكم الذاتي.
وييدو أن أردوغان نجح، وإلى حد بعيد في تحقيق ذلك. فشمال العراق بات بالفعل أشبه بمحمية عثمانية جديدة. وشمال شرق سورية الكردي، وثيق الصلة بأكراد العراق، يسير نحو المصير نفسه. هذا في حين أن إعلان عبد الله أوجلان من سجنه وقف الحرب ضد تركيا، أكمل (حتى الآن على الأقل) رسم دائرة القوس الكردي الموضوع تحت الحماية التركية.
هذا التطور، خاصة في حال جرى تعزيزه وتدعيمه، من شأنه أن يدشّن بالفعل "وليمة دولية" جديدة في الشرق الأوسط، ومعها خرائطها الجديدة.
كيف؟
(غداً نتابع)

سعد محيو

 

السابق
الحلقي يجدد دعوته كل السوريين للجلوس إلى طاولة الحوار الوطني
التالي
اتجاه لدى بعض القوى السياسية التي اجتمعت في عين التينة أمس إلى مقاطعة استشارات بعبدا