جوزيف سماحة… أوّل الحبّ!

إنه شباط اللعين.
في مثل هذه الأيام، وفي سنوات قليلة خسرت أكثر الناس تأثيراً في حياتي.
رحلت والدتي من دون أن تطمئنّ على بقيّتها في الأرض.
تركني جوزف سماحة وحيداً كأنه يختبرني مرة جديدة.
رحل عماد مغنية مؤكّداً لي صعوبة العلاقة الكاملة.
ثم فاجأني والدي بصدق نبوءته، فرحل بهدوء لم أتخيّله للحظة على هذا الشكل.
لم أكن اشعر بقرب الموت كما هي الحال الآن. ولم يسبق لي التعرّف عليه مدويّاً أو خافتاً. لم أشعر سابقاً بتقدّم العمر. الآن، فقط، أدركت حواسي التي تقودني الى حيث يقترب الإنسان من الموت صاغراً مسلّماً بلا قدرة على مقاومة.
ومأساتي مع هذا الموت، أنه لا يسلبك الأشياء الجميلة فقط. بل يمنع عنك ما تحتاج إليه من أجل الأجمل. وموت الأقربين، مثل القصاص الأقسى. إنه سؤال الوجود الدائم، حيث الحق والحرية ليسا في تحطيم الجدران، بل في اكتمال نمو أجنحة، تطير بك حيث تكبر وتستزيد.
في حالة الرحيل المفاجئ لجوزف، لم يكن السؤال مقتصراً على كيفية إكمال طريق مشرّع أمامك. لا حاجة فيه الى دليل أو نور. بل ظل السؤال عن المعرفة الفعلية التي تجعلك واثقاً من التمييز بين الخطأ والصواب. ويظل السؤال أكثر حضوراً عن كيفية التجديد اليومي في الذهن والتفكير والذهاب نحو الوضوح الذي انتزعه جوزف بجهد لم يتوقف يوماً عن المعرفة والسجال، والإصرار على كشف الأغطية عن المستور من أجل مسيرة أكثر دقة.
كثر وكثر هم الذين يفتقدون جوزف اليوم. وهو الذي عوّدهم جميعاً على ملاحقته، محبّين له وعاشقين، خصوماً وحسّاداً. لم يكن جوزف يترك مجالاً للآخر لكي يبقى بعيداً عنه. قدرته على الجذب هي سره الكبير الذي أخذه معه. كان، لكل عارفيه، ساحراً يدعو الآخر إلى مائدته، يفتح له خزائنه، ويترك له حق التوهم بالدخول إلى عالمه. وما إن يبتعد عنه قليلاً، حتى يكتشف مفاجآته في جيوب عقله وقلبه. وحيث تكون متعة اللحاق به دونما قدرة على الوصول.
موت جوزف استبقاه على لغزه المحيّر.
ترى، كيف يحصل أن يدّعي، اليوم، كل الذين عرفوه، وربما عن حق، بأنه الأقرب إليهم جميعاً في حالهم الراهنة؟
ترى، ما هو السر الذي سكن الرجل، حتى يقدر كثيرون منا على الادعاء بأنه ترك لهم إرثه ووصيته الوحيدة؟
ترى، كيف كانت جبلة هذا الرجل، حتى يلجأ المختلفون اليوم على أمور أساسية إلى البحث في أرشيفه، والعثور على ما يسند قولهم بأنه لهم هم، وليس للآخرين؟
ترى، هل هو الإنسان الذي خلقه الله في لحظة الحب المكتملة، وعندما أنجزه على صورته النادرة، نادى على الأنبياء وأبلغهم اعتزال الخلق؟
من جهتي، سأفكّر به على طريقتي دونما إشهار. ولن أدّعي اقتفاء أثره في ما أقوم به.
سأظلّ، على الدوام، أراه صورة جميلة بكل ما فيه من ألغاز وأسرار. وأراقب ابتسامته وأنا أسأل نفسي: هل هي لمحة السخرية، أم ابتسامة من يشفق علينا؟
سأختار منه الشخص الأقرب الى عقلي وقلبي وقناعاتي.
صلتي به، هي نفسها التي كانت أمي تسأل عنها خشية عليّ من غريب.
هي صورته التي جعلت والدي يطمئن عليّ، يوم دعاه جوزف الى عدم القلق.
هي الصورة التي جعلت عماد مغنية يثق بأن المقاومة بخير، لأنها محلّ إعجاب جوزف وثقته.
هي صورته من جانبي، صورة القادر على مقاومة الظلم بقلب وعقل.
صورة الذي يعرف معنى العلم في حياة البشر، ويعرف معنى الجهل في الابتعاد أكثر عن الحقيقة.
هي صورته التي جعلت «الأخبار» تتعثر ثم تقف، تتلقى الضربات من أهلها ومن خصومها وتصمد. تعي الفرق بين عوارض النموّ، وعوارض الاحتضار، برغم أن أنين الوجع هو نفسه في الحالتين.
وهي صورته ــــ وصيته، التي تقول إن كل ما يمكن اعتباره إنجازاً، ليس سوى لحظة استرخاء. وإذا ما طالت، صارت كسلاً وترهلاً وخسارة.
وهي صورته التي تقول لنا، اليوم، إن الامتحان الحقيقي لم يحن وقته بعد، وإن السؤال عن معنى الحياة اللائقة هو سؤال يومي، متوالد كما الليل والنهار، وإن الإحساس بالانتصار يقتصر على لحظة رضى، لا يشعر المرء بها إلا لحظة موته. عندها تتعطل قدرته على المحاولة من جديد.
في ذكراه السادسة، أستعير من صديقه الراحل محمود درويش، أن جوزيف كان «أول الحب»، كان يثبت لنا «أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة».

السابق
تأييد حزب الله للأرثوذكسي مجرّد مناورة
التالي
تأهب واستنفار خوفا من اشتعال الانتفاضة الثالثة ؟