وطـن لا يموت

جرت أحداث خلال الأسابيع القليلة الماضية في باراغواي، إحدى دول أميركا اللاتينية، استخلصت من متابعتها وتحليلها بعض العبر، كالحال معي دائما عندما أقرأ عن تطورات هذه القارة المثيرة حينا والمحيرة حينا آخر. ولكنى قبل أن أسرد هذه العبر المستخلصة من تحقيق رائع نشرته مجلة «الايكونومست» البريطانية ومن مقالات في صحف ودوريات أخرى، يجب أن اعترف انني اتحدث عن دولة كانت بالنسبة لي خلال سنوات قضيتها في بلاد متاخمة لها، لغزا لم أفلح، رغم مساعدة أصدقاء من إعلاميين وعلماء اجتماع في الارجنتين وشيلي وأوروغواي وبوليفيا، في فك طلاسمه.

بعد عقود من احتكار حزب «الكولورادو»، أى الحزب الأحمر للحكم في الباراغواي، وهو حزب يقوده جماعة من الاقطاعيين ورجال الأعمال، فاز برئاسة الجمهورية فى انتخابات نزيهة رجل دين كاثوليكي، اشتهر بين جماهير الشعب، وأغلبهم قليلو الحظ في التعليم، ووافرو الحظ في الفقر، بانه رجل ورع وتقي لا يكذب ولا يرتكب حماقات أو فواحش، طاهر اليد، ثوري المزاج، سمح الوجه وناشط بين الفقراء والمتمردين، ومتمكن في فن المزج بين الدين والثورة، حتى انهم منحوه لقب «فقيه التحرير».
دخل القس فرناندو لوغو قصر الرئاسة حاكما للبلاد، محمولا على شعبية فائقة وتفاؤل عظيم، فهو الرجل الذي حقق النصر على حزب فاسد مارس الاستبداد والقمع عشرات السنين وأذل اعناق الشعب. تفاءل المواطنون واستعدوا لمرحلة جديدة في تاريخ الباراغواي يقودها رجل شريف ومتديّن وثوري .
لم يكمل رجل الدين في حكم البلاد فترة رئاسية كاملة، إذ حدث فجأة أن ظهرت أربع سيدات، زاعمات أنهن أنجبن أربعة أطفال، ثمار علاقات قامت بينهن ورئيس الجمهورية عندما كان مسؤولا عن إحدى أكبر أبرشيات العاصمة. وبطبيعة الحال هبّت عاصفة سياسية، واستدرج القضاء إلى حلبة السياسة، وشنت المعارضة بكل أجنحتها حملة إعلامية شرسة ضد الرئيس الطاهر والمتدين. ولم تتوقف عملية الحشد إلا عندما صدر قرار من البرلمان بخلع الرئيس القس وعيّن مكانه رئيسا موقتا إلى حين إجراء انتخابات جديدة.

لم تقبل الدول المجاورة ان يصدر هذا التشريع البرلماني غير الديموقراطي، في دولة التزمت الديموقراطية في اطار منظمة مجموعة «الميركوسور» الاقليمية التي تضم عدداً من دول جنوب القارة، فعلقت عضوية الباراغواي في المجموعة ورفعت الأمر لـ «منظمة الدول الأميركية» ومقرها واشنطن لاتخاذ قرار مماثل بوقف عضوية باراغواي في المنظمة الأكبر. هاجت الطبقة السياسية، وبخاصة قوى المعارضة فيها، واعتبرت القرار الإقليمي اعتداء صارخا على سيادة الباراغواي. وما هي إلا أيام إلا وكانت الانتفاضة ضد القرار تعم سائر أنحاء البلاد، وسادت الدهشة عواصم عديدة خارج القارة من درجة انفعال المواطنين. ما لم يدركه هؤلاء جميعا هو أن وراء هذا الانفعال والغضب رواية تاريخية ذات مغزى، ولعلها، أي الرواية، أحد أسباب غموض ما يتردد عن «سردية باراغواي» أو الدولة اللغز.

قبل حوالى مائة وخمسين عاما، وبالتحديد في عام 1865، كان يحكم الباراغواي رجل طموح أراد أن يبني فيها قاعدة صناعية وينقلها من التخلف إلى التقدم. يبدو، وان كان المؤرخون لا يؤكدون، انه ربما سمع عن تجربة «محمد علي» في مصر، وراقب بدايات تجربة «الميجي» في اليابان، فراح يستدعي مهندسين وعلماء من أوروبا أقاموا له مصنعا لصهر الحديد، ووضعوا أساس واحدة من أولى شبكات السكة الحديد في أميركا الجنوبية، وجيشا يتأهل لصد غارات وطموحات امبراطور البرازيل، الدولة العظمى المتاخمة.
مات الرئيس الطموح وحل محله ابنه المغرور بنفسه والمتهور غالبا والكاره بشدة للبرازيل، إلى الحد الذي دفعه لإعلان الحرب عليها فور توليه الحكم، رغم الفارق الشاسع بين البلدين في كل شيء. للرد عليه، شكلت إمبراطورية البرازيل «حلفا مثلثا» ضم الأرجنتين والأروغواي، وتوغلت جيوش الحلف في باراغواي في حرب استمرت حوالى خمس سنوات. قليلون في العالم يعرفون ان هذه الحرب أودت بحياة 65 في المئة من سكان الباراغواي و80 في المئة من الذكور. كانت الهزيمة ساحقة، وبخاصة حين فرضت قوات الاحتلال وقف التصنيع وتسريح الجيش ودفع تعويضات هائلة.

رفض الرئيس انطونيو لوبيز الابن الاستسلام مصراً على أنه وبلاده ضحية مؤامرة إقليمية، وانطلق يعتقل المواطنين ويعذبهم، حتى والدته وشقيقته لم تفلتا. وراح يعدم آلاف المواطنين مستخدماً الحراب لتوفير الذخيرة. توقفت المصانع وتدهورت الحقول وانتشرت الأوبئة، ورغم ذلك قام بتجنيد الأطفال بعد ان أمرهم بتركيب لحى اصطناعية، وزودهم بعصي في شكل بنادق، وشن بهم معركة مع العدو قتل فيها 200 طفل. وهو اليوم الذي تحتفل به باراغواي إلى يومنا هذا «عيدا قوميا للطفولة».
انسحب لوبيز بفلوله إلى أقصى شمال البلاد واستمر يحارب حتى يوم أسره. يقال إنه في هذا اليوم هتف قبل إطلاق النار عليه صارخا بملء صوته: «اليوم أموت مع وطني». ولكن يسجل مؤرخون انه هتف: «أموت من أجل وطني». تردد أيضا انه صرح قبل أيام من مصرعه لرفاقه، بأنه «سوف يدفن تحت جبال من الخزي والعار» ، ولكن يوما سيأتي «أنهض فيه من هاوية التشهير واحتل مكاني الصحيح في التاريخ».

منذ أن صدر قرار المجموعة الإقليمية ضد باراغواي قبل أيام، عادت الأجراس في أسونسيون العاصمة تدق نهارا وليلا، والشعب في شوارعها وأزقتها يحمل صور المارشال لوبيز الذي حارب قبل مائة وخمسين عاما امبراطورية البرازيل وحليفتيها، وعاش حتى آخر يوم في حياته معتقدا أنه وبلاده مستهدفان ليموتا معاً. يموت الزعيم ويموت معه الشعب والوطن. فالتاريخ، وبالذات تاريخ الأميركتين، شاهد على أوطان ماتت وأمم اندثرت.

تنبأ الزعيم بأنه عندما يموت سيموت معه الشعب والوطن. مات الزعيم… ومات معظم الشعب، ولكن عاش الوطن.

السابق
الراعي على خطى بري: قانون بطرس
التالي
أوباما مطمئن إلى صورة أميركا العربية