إستثمار سياسيّ مشبوه لدماء الشهداء

ما أشبه اليوم بالأمس. كأن البلاد عادت إلى المربع الأول، يوم جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق ورفاقه، إذ انطلقت منذ اللحظة الأولى الاتهامات في اتجاه مغاير للوقائع التي تكشفت لاحقاً، وحمّلت أوزار تلك الحادثة الأليمة إلى جهات إقليمية بكونها مسؤولة عن حصولها.
استثمرت «إسرائيل» وأميركا تداعيات الحادثة لتصب الزيت على النار، وعملت مع المتربّصين شراً بهذا الوطن على انسحاب القوات السورية من لبنان (لا مجال هنا الآن لذكر ما كان لوجود ذلك الجيش العربي السوري من أياد بيضاء في منع التقسيم والاقتتال الداخلي والتصديّ لدولة العدو الصهيوني)، وذلك كان الهدف من الاغتيال. والهدف الثاني إخراج الدولة بأجهزتها الأمنية والقضائية إلى المجهول وتسليم زمام الأمور إلى «محكمة دولية» أرادوها رغم ممانعة السلطات الرسمية المخولة بعقد مثل تلك الاتفاقيات الدولية، بدءاً برئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء، وصولاً إلى مجلس النواب، والكل يعلم كيف هُرّبت تلك الاتفاقية المشؤومة ومن كان يقف وراء تهريبها. وحصلت بعد ذلك سلسلة من الاغتيالات المدانة وانتشار لا مثيل له لعملاء «إسرائيل» والغرب وأصبح البلد مسرحاً لأجهزة المخابرات تتصارع على الإمساك بالساحة اللبنانية، وذهب ضحية ذلك التصادم الاستخباراتي الدولي أبرياء كثيرون ووقعت خسائر لا تقدر، وغذّى الفلتان الأمني الأصولية والسلفية واستقدام للسلاح، تحضيراً لما يحصل على الأرض السورية من تدمير وإجرام لا مثيل لهما في الاجتياحات البربرية.
طال أمد الأزمة ولم تتمكن دول محور الشر الصهيوني ـ الأميركي وأتباعهما من الوصول إلى مآربهم بإسقاط النظام في الدولة السورية، وعندما تأكدوا جميعاً من أن ذلك النظام أمنع وأصلب مما كانوا يظنون بفضل وحدة شعبه وصلابة جيشه وتصميم قيادته على السير في الإصلاحات الدستورية المطلوبة لإعادة بوصلة الصراع العربي -»الإسرائيلي» إلى مسارها الصحيح. لم يتوانوا بعد التسليح المكثف للمجموعات الأصولية والسلفية، الداخلية والمستقدمة من الخارج، ومدّها بالمال والخبراء لتمكينها من إشعال الفتنة تحت مبررات واهية، من «نصرة الشعب» إلى آخر المعلقات الجاهلية الكاذبة عن الحرية والديمقراطية… أعادوا الحوادث الدامية إلى المربع الأول وفجروا ما كان دفيناً في قلوبهم من حقد مذهبي وطائفي باغتيال رئيس فرع المعلومات اللواء وسام الحسن، ثم انطلقت عناصر الشغب والفوضى بعد الخطب التحريضية من «سخي الدمع» الذي كاد يعلن البيان الانقلابي الأول على المؤسسات والمقارّ الحكومية، لا لأمر جوهري بل لأنه ومن يمثل ممن «تعامل» و»تعاون» مع أعداء الوطن قد خسروا السلطة وأصبحوا خارج دائرة القرار الحكومي. هذا في خلفياتهم و»أدبياتهم» السياسية، أما في ما يخطط له العدو الخارجي وبعض الداخل، فهو التحضير للانتخابات النيابية المقبلة عبر استثمار الدم المراق ظلماً في التحريض واستثارة الغرائز للحصول على أكثرية نيابية (تماماً كما حصل بعد اغتيال الرئيس الحريري) تكفل انتخاب رئيس جمهورية جديد من صفوفهم، وهو ما كان بالأمس يعفّر جبينه على أقدام ملك هرم علّه يحظى بمكرمة توصله إلى ما يخطّط له أعداء الأمة والوطن، مع التذكير بمسرحية إخراجه من السجن التي بدأت تتكشف فصولها يوماً فآخر وما قام به أتباعه من شغب ومحاولات فاشلة لاقتحام مركز رئاسة الحكومة مع حملة الأعلام المشبوهة المتعددة الألوان والغايات الإجرامية الخبيثة.
تغيّر الزمن كثيراً، والمؤمنون لا يلدغون من جحر مرتين، وما كان يُغَضّ الطرف عنه سابقاً لا يمكن التغاضي عنه راهناً، ولن يسمح الشرفاء في هذا الوطن بأن يعاد استغلال دماء الشهداء في استهدافات ذاتية رخيصة لا علاقة لها بالحرية والسيادة، بل هي «تمنيات» من أرباب نعمهم لتنفيذ مخططات التقسيم المذهبي والطائفي وصولاً إلى وضع الشرق كله تحت الوصاية الغربية والهيمنة «الإسرائيلية»، لكن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر عندهم وإنهم لواهمون، فالأمور لن تسير بحسب أهوائهم مهما طالت ألسن السوء عند قياداتهم ومهما زاد التحريض على الصامدين في وجه عواصف العمالة والعثمنة والاستعراب والتهويد.

السابق
آخر مهمة لسليمان
التالي
لعبة سوريا أكبر من أفكار الابراهيمي