حدّثنا الإبراهيمي

جاء الأخضر الإبراهيمي يفتش عن رصانة تحاكي تلك التي يعالج بها الملف السوري المعقّد، ويسأل عن صحّة "النأي بالنفس"، فلا وجد أثراً للأولى، ولم يكن بحاجة إلى دليل يؤكّد اعتلال الثانيّة، فقال كلمته ومشى تاركاً وراءه رعايا الخارج والخوارج تتناهش، وتتفنّن في افتعال النكايات والكيديّات، ولولا اللياقات، وبعض مقتضيات جدول الأعمال، لصرَفَ النظر، وامتنع عن القيام بزيارة بلد يطوف على متن طائرة من دون طيّار، يسيّرها "ريموت كونترول" خارجي.

هادئ الأخضر الإبراهيمي، رصين، كتوم، يبلع ريقه على مهل، ومع كلّ بلعة ألف غصّة، وألف سرّ، وتنهيدة مسلوخة من الأعماق يطلقها بين الفينة والأخرى لتفرّج عن كربة محقونة في صدرٍ تراكمت ما بين أضلعه كلّ الأسرار والأخبار، والغصّات والتأوّهات. طالبه الرئيس ميقاتي بالمجيء عندما التقيا في نيويورك الشهر المنصرم: "لدينا الكثير لنتحدث عنه، من ملف النازحين الذي يتعاظم أمره يوماً بعد يوم، مع اشتداد الأزمة، إلى ملفّ الخروقات على طول الحدود اللبنانية – السوريّة، إلى السلاح والمسلحين، والتمويل الخارجي، إلى هدنة الأضحى، وما يمكن أن يُبنى عليها إذا ما نجحت الجهود لوضعها موضع التنفيذ".

رحّبنا به لعلّه يعطي، فجاء ليأخذ، همّه الأوّل والأساسي تجفيف منابع المال، لأنّ استمرار الدفق بكرم حاتميّ يعني استمرار الأزمة من دون أفق، طالبنا بالمساعدة بضبط الحدود، والمعابر والممرّات "الماليّة" والبرّية، والكفّ عن التورّط في الشأن السوري الداخلي، ووضع العصيّ في دواليب مهمّته، وهو الذي يملك الوثائق والمستندات التي تفضح مدى التورّط، والجهات المتورّطة، وحدود حركة استيراد وتصدير الأسلحة والمسلّحين، والتنافس اللاأخلاقي على المناقصات ودفاتر الشروط المموّلة من قِبل مرجعيّات لها صدقيتها، بهدف إضرام النار في الهشيم السوري ليأتي على الأخضر واليابس.

كاشفناه بسياسة النأي بالنفس، فسأل: من يمارسها؟، لا بل من يحترمها أساساً ؟، وسرعان ما اكتشف بأنّ حدود صدقيتها لا تتجاوز حدود قصر بعبدا، وعين التينة، والسرايا، ووزير الداخلية مروان شربل الذي "يركضها كلّها" ما بين سجن رومية، ومضارب "فتح الإسلام"، إلى سائر "الفتوحات" الأخرى.. الى سائر من يحاول أن يفتح على حسابه ؟!.

فتحنا أمامه كلّ الملفّات، عدد الطلّاب السوريّين، وخارطة انتشارهم وتجمّعاتهم، والمدارس التي تحتضنهم، والمتطلّبات المكلفة، "فقد لا تنتهي الثورة في سوريا اليوم أو في المستقبل القريب… وليس بوسع لبنان الانتظار، إذ لا فائض ماليّا عنده، وما على الصناديق العربيّة والدوليّة التي تموّل العنف، إلّا أن تموّل تداعياته أيضاً للحدّ من تفاقم الأزمة واستفحالها، خصوصاً في دول يماثل وضعها وضع لبنان المفلس عمليّا، ولكن من دون إشهار إفلاسه رسميّا". فتحنا أمامه ملفّ النازحين، ليس هناك من رقم جدّي يمكن الركون إليه، مئة ألف، أقلّ، أكثر، المهمّ أنّهم موجودون، أنّهم يتكاثرون، الأبواب مفتوحة، الحدود مفتوحة، ويقال بأنّ هناك "مافيات" متخصّصة تتقاضى "عالرّاس؟!".

ملفّ النازحين، تحوّل الى عبء، ليس هناك بعد من دراسات متخصّصة، هناك محاولات تجري على هذا الصعيد، ويقوم بمعظمها هواة ناشطون من خارج القطاع العام، وبمبادرات فرديّة، تموّلها جمعيّات تنتمي الى المجتمع المدني، وبعض المصارف التي تعنى بدعم المبادرات الفرديّة البنّاءة.

أكّد الإبراهيمي على دور الأمم المتحدة، والجامعة العربيّة، والمنظمات الإنسانيّة الدوليّة المتخصّصة، والتي تعنى بهذا الشأن. كلامه أثار غباراً في بيروت، هناك أموال تُدفع، لكنّ أحداً لا يعرف، أو لا يريد أن يعرف أين تذهب؟ وكيف تُنفق؟، وبأيّ اتّجاه؟، وهل هي بعهدة المؤسّسات المنضبطة الشفّافة، أم بعهدة المافيات؟!.

تحدّث عن هدنة الأضحى، وكيف ولدت الفكرة، ومن أين انطلقت، ومدى حظوظها بالنجاح؟، كان واقعيّاً سلِساً، واستخدم لغة مبسّطة، لم يظهر مقداراً جامحاً من التفاؤل، ولم ينعَ المبادرة والجهود التي تُبذل لإنجاحها.

صوّب فوراً باتّجاه البعيد، همّه ألّا تكون محاصرة بالمُهل والأيام، حتى ولو كانت بعديد أيّام الأضحى، لأنّها لا تعني شيئاً، ولا تترك أثراً إن لم تكن مقترنة بخارطة طريق تؤسّس لمرحلة انتقاليّة، أصبحت أكثر من ضروريّة لرفع المظلّة عن مافيات المال والسلاح والمرتزقة، ووقف الخروقات على طول الحدود، وإعادة النازحين من فلسطينييّن وسوريّين وفق خطة منسّقة مع الجامعة العربيّة والأمم المتحدة ومجلس الأمن، وفرض رقابة صارمة على سياسة النأي بالنفس لتطبيقها فعلاً لا قولاً.

هذا ما يتمنّاه الإبراهيمي، وما يخشى من تطبيقه، مقدار خشيته على لبنان بلد الخارج والخوارج؟!.  

السابق
بين الإبراهيمي والحذر من الهدنة
التالي
ما الجديد في ملف المخطوفين في سوريا؟