ميقاتي: أين كنّا وأين أصبحنا

بكثير من الارتياح عاد الرئيس نجيب ميقاتي من اجتماعات الأمم المتحدة. بين أيلول 2011 وأيلول 2012 تغيّر الكثير في الموقف الدولي من الحكومة اللبنانية. لائحة طويلة من المقابلات مع أوسع مروحة من الزعماء قادته إلى فائض من الدعم، والقول: أين كنّا وأين أصبحنا

قبل سنة، في أيلول 2011، عندما ذهب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى الأمم المتحدة، لم يكن من السهل تنظيم لقاءات مهمة وضرورية له مع زعماء العالم ــــ وكان لبنان لمّا يزل رئيساً لمجلس الأمن ــــ تحت وطأة اتهامات وشائعات سبقته إلى هناك، وتعمّدت التشهير بحكومته: مرة هي حكومة حزب الله، ومرة حكومة مناوئة للمجتمع الدولي وقراراته، ومرة حكومة صنعتها سوريا. ألقت الاتهامات والشائعات بثقلها عليه منذ تكليفه ترؤس الحكومة، ثم انقضاء أشهر حتى إعلانها. بعد سنة على ذلك كله، في ظلّ تغييرات بالغة الأهمية في المنطقة تكاد تنتقل بها من حقبة إلى أخرى، اختلف الموقف الدولي من لبنان.
سمع ميقاتي في نيويورك إطراءً شخصياً، وآخر بحكومته، رغم بعض الشكوك في تأثير حزب الله، الذي يسيطر على الأكثرية الوزارية فيها. قيل لميقاتي: المجتمع الدولي مرتاح تماماً إلى علاقته بالحكومة اللبنانية. نفّذ رئيسها كل ما تعهّد له به. وقيل له أيضاً: أحسنتم إقامة التوازن بين علاقاتكم الدولية والوضع الداخلي في لبنان.

في حصيلة لقاءات أجراها مع الرؤساء الأميركي والفرنسي والمصري والأمين العام للأمم المتحدة وملك الأردن، وكذلك مع مسؤولين ووزراء أميركيين وروس وقطريين وسعوديين وأتراك وليبيين وتونسيين والاتحاد الأوروبي وسواهم، عاد ميقاتي بدعم دولي جديد لحكومته، يساعدها على المضي في سياستيها الخارجية والداخلية، وخصوصاً النأي بالنفس حيال ما يجري في سوريا، وضمان الاستقرار الأمني. ويقول: «أولى المسؤولون الدوليون اهتماماً بارزاً لطريقة جبه الحكومة اللبنانية التحدّيات الإقليمية، وسمعت تأكيداً تلو آخر على دعم خطواتها لتجنيب لبنان أي إخلال أو اضطراب أمني، وتحييده عن تداعيات ما يحدث في سوريا».

بيد أنه لمس من محدّثيه الدوليين أن «أحداً لا يملك حتى الآن رؤية واضحة لما ينبغي القيام به حيال سوريا. ثمّة قاسم مشترك يلتقي عليه المجتمع الدولي، من غير أن يتمكّن من الإجابة عن الغموض الذي يحوط به، هو طرح ثلاثة أسئلة كبرى عن سوريا: كيف ستنتهي الأحداث؟ متى تنتهي؟ وماذا بعد انتهائها؟ لا أحد لديه جواب، ولا أعدّ رؤية واضحة سوى الاهتمام المطبوع بالقلق من تسارع وتيرة الأعمال العسكرية. في نيويورك كانوا يسألون عن انعكاس هذا التسارع وتداعياته على لبنان».

شقّان أساسيان ناقشهما رئيس الحكومة مع المسؤولين الدوليين إزاء موقف لبنان من أحداث سوريا:
أولهما أمني، وهو إصرارهم على تحييد لبنان عمّا يجري هناك، كي لا يتأثر بتلك الأحداث، وترتد على استقراره وأمنه.
وثانيهما، إنساني، يتصل باستقبال النازحين السوريين ومساعدتهم وإيوائهم، مع إبراز المسؤولين الدوليين خشيتهم من تزايد أعداد النازحين على الدول المجاورة لسوريا، كتركيا ولبنان والأردن، من جراء استمرار أعمال العنف وتعذّر التوصل إلى تسوية سياسية.ردّ ميقاتي بتأكيده أن الحكومة اللبنانية «مصدر رئيسي من مصادر الاستقرار. والقوى الأمنية تضطلع بمهماتها على نحو ممتاز. الجيش اللبناني يتسلّح بالغطاء السياسي، واتخذ إجراءات صارمة لحفظ الأمن، كما أن السياسيين اللبنانيين على اختلاف مواقعهم وتناقضات مواقفهم يلتقون على رفض الانجرار إلى أي إخلال أو اضطراب أمني».
أكد ميقاتي هذا الموقف أيضاً في لقائه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بعد اجتماع كان قد عقده الوزير الروسي مع نظيره السوري وليد المعلم.

قال رئيس الحكومة لزعماء العالم: «أما الجانب الإنساني من الأزمة السورية، المتعلق بالنازحين، فإن لبنان يتطلع إلى مزيد من اهتمام المجتمع الدولي بمساعدتهم في أماكن وجودهم في البلدان المجاورة لسوريا. في لبنان أصبح عددهم اليوم، وأنا في نيويورك،70 ألفاً، وهو رقم مرشّح للتزايد في الأيام المقبلة مع تصاعد موجة العنف والنزاع الدائر هناك. صحيح أن الحكومة اللبنانية اعتمدت سياسة النأي بالنفس سياسياً، إلا أنها لم تنأ بنفسها على الإطلاق عن تقديم أوسع نطاق من المساعدات الإنسانية للنازحين، الذين وفدوا إلى المناطق اللبنانية المختلفة». أضاف: «أدعو المجتمع الدولي إلى مساعدة لبنان على استيعاب الكمّ المتزايد من النازحين، كلما تفاقم الوضع العسكري في سوريا ازداد العبء علينا».

ثم أسهب في شرح الدوافع التي أملت على لبنان تحفّظه عن الموافقة على ما كان قد طُلب منه قبل سنة، وهو إنشاء مخيّمات للاجئين السوريين، مفضّلاً أسلوباً إنسانياً آخر في التعامل معهم. قال: «لم يكن من السهل على لبنان الموافقة على هذا الاقتراح، بعدما خَبِرَ تجربة مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين على أراضيه. أضف أن تجربة مخيّمات اللاجئين السوريين في تركيا والأردن لم تُثبت جدواها، وارتدّت سلباً في بعض الأحيان. منذ رفض لبنان إنشاء مخيّمات لهم على أراضيه، اختار أن يؤمن إسكانهم. قطنوا لدى عائلات لبنانية، وقدّمنا مساعدات اجتماعية وإنسانية إلى الضيف، وكذلك إلى المضيف، من أجل استيعاب وزر العبء الإضافي، نظراً إلى قدراتنا المحدودة. لم نكن مستعدين، ولا نزال، لإقامة مخيّمات. إلا أننا لا نتأخر عن القيام بأي دور أو واجب إنساني حيال هذه المشكلة المتفاقمة. وقد أكد انقضاء سنة على موقفنا صحّة هذا الخيار. لسنا ضد المخيّمات كملاذ للإقامة، لكن التجربة المريرة التي عرفها لبنان أدخلت القلق والخشية إلى قلبه من تحوّل المخيّمات من إيواء موقت إلى ملاذ دائم، يقرّر بعد ذلك اللاجئون أن لا يعودوا إلى بلادهم بعد استتباب الوضع، مهما تكن نتائج ما يحدث داخل سوريا، لا نريد على الإطلاق جعل المخيّمات ملاذاً دائماً في مرحلة لاحقة». ولمس رئيس الحكومة تفهّماً دولياً للموقف اللبناني، بعد تأكيد المضي في إجراءات مماثلة.
وأثار ميقاتي أيضاً مع زعماء الدول، وأخصّهم الأوروبيون، تسليح الجيش اللبناني، متحدّثاً عن إقرار الحكومة اللبنانية خطة للتسليح لمدة خمس سنوات، وضعتها القيادة العسكرية، ورُصد لها مليار و600 مليون دولار أميركي، كاشفاً أن الخطة ستعلن قريباً. ورغم أن الخطة متواضعة وضمن حدود دنيا، إلا أن المساهمة الحكومية الكاملة فيها دونها عقبات مالية.

وخاطب المسؤولين الدوليين: «ما دامت الحكومات الغربية والأوروبية تريد مساعدة لبنان، وتؤكد ذلك مراراً، فلتكن هذه من ضمن خارطة طريق تدخل في صلبها خطة تسليح الجيش». وهو سمع استعداداً أوروبياً لمناقشة هذا الاقتراح تبعاً لإحدى طريقتين: أولاهما من خلال مؤتمر دول مانحة يقدّم مساعدات لتسليح الجيش، وثانيتهما عبر العلاقات الثنائية بين لبنان وكل من تلك الدول. لم يُبتّ الأمر بعدما تبيّن أنه لا سابقة في التئام مؤتمر دول مانحة يقدّم مساعدات إلى جيش. بيد أن رئيس الحكومة أبرَزَ للمسؤولين الأوروبيين مخرجاً يدعم خطة تسليح الجيش تحت مظلة القرار 1701، الذي يتحدّث عن إحلال الجيش اللبناني محل القوة الدولية في الجنوب بعد تسليحه وتطوير قدراته لبسط الأمن والسيادة على تلك المنطقة. وضع تسليح الجيش في سلم أولويات المساعدات الدولية.

يستخلص رئيس الحكومة من محادثات مستفيضة في نيويورك أنه حاز مجدّداً دعماً دولياً ضرورياً لمواجهة التحدّيات. لم يعد يشعر، كالأشهر الأولى من عمر الحكومة، بأن لبنان يسير على الساعة السورية، حابساً الأنفاس إزاء التطورات هناك، وخائفاً على تداعياتها عليه، وعلى انهيار الاستقرار، يعيش في ما يشبه الكابوس. بعدما ثبّت تأييداً داخلياً لسياسة النأي بالنفس، ألحقه بدعم دولي علني، يرى ميقاتي أن المرحلة المقبلة هي لعمل الحكومة اقتصادياً وإدارياً واجتماعياً: الإثنين جلسة استثنائية لمجلس الوزراء لمناقشة خمسة مشاريع قوانين تتصل بتحديث الإدارة. ثم الخوض لاحقاً في الموازنة، وفي تأمين موارد لسلسلة الرتب والرواتب، فالخطة الاقتصادية. وهو الآن في صدد توجيه دعوة إلى طاولة حوار اقتصادي ــ اجتماعي.

أما عن الجدل الدائر في اللجان النيابية المشتركة حول قانون الانتخاب، فيؤكد ميقاتي تمسّكه بمشروع الحكومة: «عندما أحلناه على مجلس النواب، كنّا على ثقة واقتناع بأنه المشروع الملائم، الذي يُوفر أفضل صيغة تمثيلية لخوض الانتخابات النيابية. ولا نزال عند هذا الاقتناع. نحن نتمسّك حتماً بمبدأ النسبية كنظام تصويت، ولا نزال نعتبرها الأفضل من أجل مشاركة واسعة تنخرط فيها فئات الشعب والقوى والأحزاب بلا استثناء. لكن بالتأكيد لمجلس النواب أن يقرّر».  

السابق
مواد سامّة في الهواتف النقّالة
التالي
أعداء سورية هم أعداء العروبة