ليسقـط عنـّي التلبّـد

إلى جودي..

انتظرت صباح اليوم التالي لأكتب. كنت قد أثقلت الورق الكثير مما حمّلتني إياه مهمّة المراسلة. ليس للفعل ذاته، بل لما سأقول فيه. في مكان آخر، كشرفة بيتٍ في هذا الصيف، على الجبل، كثير من الرذاذ المعتّق بالبرد، أحبّ أن أقول.
ساعدتني أناملي على اجتياز الجسر، من أول ما قررت أنّي سأكون هذا الاختلاف، قبل 10 أعوام تقريباً.. كنتُ في الحادية عشرة، في صفّ الرياضيات، أخرجت الدفتر الأزرق الصغير من محفظتي، اخترت مقعداً فارغاً، ورحت أهمس للورق. لا أعرف إن يصحّ تعبير «الكتابة» على ما كنت أقول، أو على ما كنتُ أعرف منها.. بيدها التي تشدّ على يدي. كتبت هذه الجملة بالضبط: «أجلس على طاولتي المدرسية، أكتب على دفتري، بعد أن أنهيت امتحان الرياضيات وسلّمته إلى المعلّمة، لا أدري ما ستكون النتيجة. رفاقي يتبادلون الأسئلة والأجوبة، لكن رأسي مليء بالأسئلة ولم أسمع منهم جواباً على شيء!».
كنتُ حزينة، ككلّ الفترة الماضية، لا أنفكّ عن التفكير بالمسؤوليّات، وبما سيكون عليه الحال بعد حين، وكيف سألفظ الهمّ إذا ما واجهني السؤال. كنتُ أعرف كم أنّي صغيرة، وأن عليّ الاهتمام، كباقي رفاقي، بالعبث بالضحك الكثير، وبالرحلات، وبالدرس الجماعي، وبالنجاح، وبرسائل آخر العام، على دفتر المذكرات الزهري، المزيّن بالورود وبالعطر.

كنتُ أعرف الكثير، ولا أفهم معظمه، وكنتُ دائماً أسأل: من أين لهذا العمر الصغير أن يمتلئ ضعف حدّه؟ أسباب الحزن كانت واضحة، طلاق والداي، والتشتتّ الحاصل في الروح، وأنّي الكبيرة بين إخوتي، وعليّ أن أصير الاهتمام. وخاصة في الفترة التي كنتُ أبني فيها اللحظة والفكرة والحلم الصغير، لأصيرها في المستقبل على هيئة المبنيّ.
أردت أن أكون بالشكل الطبيعي الذي كانت عليه بقيّة الفتيات، وليس لأنّي فقدت الكثير من حنوّ الالتمام على الفجوة.
بقيت الأمور مبعثرة حتى الثامنة عشرة، حين تخرّجتُ من المدرسة، ودخلت الجامعة، وصارت اهتماماتي أكثر. درستُ الصحافة، فعلّمتني وعرّفتني على الكثير، وصار الذي كُتب في الأعلى كمرآة لنفسي، أرى من خلالها أين أكون، وبأي متن أتجانس.
تعطينا الحياة دائماً خيارات الطريق، كميناء بلا هويّة، كي تترك لنا مهمة تسمية المكان الجديد.. لننتمي.
ما كان يجب أن يُقال، قد دُثر هنا، ليسقط عنّي التلبّد.

الذكريات كالفراشات، تبقى تحوم حول العمر، حتى تصير وجهه. يتكلّم الغيب قبل المنويّ سرده، بلا إذن من الشخص، بإذن من اللاوعي.
تأخذني الحياة على الطريق كالنشوة المستعجلة، لكن، وعلى جنبٍ ما، مائل كالخاصرة، عطرٌ يحتسيني، ويقول: هناك بقيّة منّي في الخلف. أُخذتُ بالداخل الذي يقول كلّ شيء قبلي، فيُساعدني على التوجّس، بكثير من الظمأ، في الداخل الآخر.

أنا من الجنوب، من قرية صغيرة على الساحل، تستلقي على الجبين، فتستقبل أهلها بقبضة من طين، فيها روحٌ من شهداء مرّوا، لتقوم الأرض بعدها. أمي وأبي قريبان من القرية ذاتها، انفصلا وأنا في الثانية من عمري، لا أعرف كيف تكون حياتي معهما سوية، لذا، لا أحن إلى ما فقدت، بل أتخيّله.
أحبّ أنّي بعين الله.. كلّما ضاق الرحم، أفرد سجادة الصلاة، وأطوف على مساحة ضيّقة، توصلني إلى اللامحدود، فألتقط الحبّ من متنه. أحبّ الدعاء وتبعاته. وأدهش بالإجابة. أحبّ التعرّف على كل الأديان، وأكره المتعصّبين.
هذا جانبٌ منّي.
أقطن بمحاذاة البحر، وإن كنتُ أود السكن في مناطق عالـية. لا أحب البحر ولا طقسه. البحر بلا رذاذ برد معتّق لا يجدي.
قررت الكتابة إليكِ لأني وجدت في ما تقولين أشياء تشبهني كثيراً. استغلّيت فرصة المراسلة، لأقول ما أودّ مواجهة نفسي به أولاً، ولأتعرف عليكِ أكثر. حين بدأت بالكتابة، لم أكن قد رأيتكِ، ولم أكن أريد ذلك قبل أن أنهي نصّي، لكنّ لقاءنا كان صدفة، في اجتماع التحرير لصفحة «شباب السفير» يوم الجمعة الماضي، وكان نهارها عيد ميلاد الشاعر أنسي الحاج، فاقترحت عليك أن تأتي معي لتتعرفي عليه، لأنك قلتِ لي في رسالة سابقة على «فايسبوك»، بعد كثير قبلها، حدّثتني فيها عن الكتابة، كم أنك تحبينه.

رأيتُ فيكِ جانباً مني لطالما كتمته، الامتثال للداخل غير المحجّب، المفتوح على «الفلى».. بالهدوء الذي رأيتني فيه، أضجّ من «جوّا.. جوّا»، المكان الذي كلما ازددنا اشتعل. داخلٌ لا يكن. رأيت على وجهكِ ابتسامة كشدّ آخر الليل على الشغف، كأنك تقولين للصامت فيكِ: أراك. وجدتُك صديقة في القول، والبساطة في الطرح، كرقص خفيّ على الكمان. كوني أنا الداخلية، وصديقة الأشياء التي أقتنع أن لا أقولها.  

السابق
الاسد: نخوض معركة يتوقف عليها مصير الشعب والأمة
التالي
اختيار الشريك.. على أي أساس؟!