اليهودي

الضربات التي علمتني الحذر والخوف لم تكن كلها من حيوانات، بل أتى بعضها من بني الإنسان.
كنت في الثامنة من العمر، عندما تعرفت إلى رجل في العقد الخامس من عمره، وكان له محل خردة بالقرب من الشقة التي قطناها في منطقة برج حمود ـ مقطع السكة. وكنت أراه في ذهابي وإيابي، كان يجلس دائماً وحيداً وراء طاولة في وسط محله. كان منظره البسيط والمتواضع يثير فضولي. فدخلت محله ذات مرة ورحت أحادثه، سألته عن زوجته وأولاده قال إنهم في “إسرائيل”. كان ذلك قبل العام 1967 ولم أكن على أي علم في ذلك العمر بما يعنيه أن تكون يهودياً. غير بعض الملاحظات التي كنت أسمعها، وكان بعضها يثير الشك والريبة والامتعاض، وأكثرها يثير الحذر. لكني وفي عمري أثار لدي الشفقة.

سألته إن كان هناك من يعتني به ويحضِّر له طعامه. فقال لا وإنه يتدبر أمره بنفسه، فاستثار عطفي وحناني. ذهبت إلى البيت وأحضرت له بعض الطعام، فوضع الصحن أمامه وراح يأكل بشهية، مما أكد لي حاجته وصوابية ما قمت به. ومنذ ذلك اليوم أخذت على مسؤوليتي، أن أحضر له صحناً من الطعام يومياً. في البدء كنت أخفيه دخولاً إلى البيت أو خروجاً منه، إذ كانت والدتي قد عرفت بأني أخرج بصحن ملآن وأعود به فارغاً. لكنها لم تسألني يوماً… إلى مَن؟ أو من أين؟ وهذا ما سهّل عليَّ الأمر.

بعد بضعة أشهر على هذه الحالة، بدأ الموضوع يقلقني، إذ كنت أحسب حسابه أينما كنت، وأخاف أن يكون جائعاً، فأستعجل العودة إلى المنزل كي أطعمه. وكأن إطعامه أصبح مسؤوليتي الشخصية.
لكن الفرج أتاني، عندما قرر أهلي السكن في مكان آخر. حيث مكثنا قرابة السنتين وعدنا إلى المنطقة ذاتها في برج حمود ـ مقطع السكة. لكني كنت قد أخذت قراري بعدم الالتزام في إطعام “الصديق” اليهودي. بالرغم من أني سألت عنه، فدلوني إلى حيث انتقل في المنطقة نفسها. قصدته، فقط من أجل إلقاء التحية عليه، وكان فرحاً جداً بمشاهدتي. لم أشأ أن أسأله عن زوجته وعائلته، كي لا يستثير شفقتي أو أن أضعف من جديد.

وذات يوم كنت ألهو بتصنيع دراجة من خشب، واحتجت إلى ثلاثة مسامير. كان بديهياً أن أقصد صاحبي اليهودي، ففعلت. سألته إن كان ممكناً أن أحصل على ثلاثة مسامير، مشيراً بأصابعي إلى الحجم الذي أريد. قال، طبعاً ثم راح يفتح علبة لاستخراج المسامير الثلاثة منها. شعرت أنه من واجبي، لياقة، أن أسأله وأعرض عليه دفع ثمنها، فأجابني: 25 قرشاً.
أدركت حينها ما معنى أن يكون الإنسان يهودياً.  

السابق
عندما يصبح الصوت مشكلة ..!
التالي
بقرة تدر حليباً.. قليل السكر