لتذهب الأغلبية الصامتة إلى الجحيم 

اللبنانيون يعيشون أياماً صعبة. لا أحد يقف على رجليه. الكل يتصرف على أنه الأكثر معرفة بدقائق الأمور. لا مكان للتواضع بعد الآن. كل فرد، كما كل مجموعة، كما كل فريق، يقول ما يقوله على أنه الحقيقة غير القابلة للشك. وما على الآخرين إلا القبول أو الأخذ بنظرياته. أو هو يصبح الشيطان بنفسه.

ها نحن نعيش عوارض الحرب الأهلية. اشتاق اللبنانيون إلى جولة جديدة من العنف. ليس صحيحاً أن أقلية هي التي تريد ذلك. الجماهير، ما غيرها، لا تعرف التصفيق والتصفير إلا عند سماع خطباء بأصوات مرتفعة. والدماء لا تغلي إلا مع سماع إطلاق الرصاص في الهواء. أما من يصفون أنفسهم بالأغلبية الصامتة، ثم يجدون من يحاول ادّعاء النطق باسمهم، فهم العدم. هم الصفر في الرياضيات. وهم اللاشيء في الحياة. وهم الهامش في أي نص سياسي. وهم الوقود لكل حرب أو معركة. وكل من يدّعي أنه من هذه الأغلبية، ليس هو في حقيقة الأمر إلا واحداً من قطيع كبير، يتذاكى على نفسه بأنه يتبرّم، لكنه لا يجرؤ على أكثر من ذلك. هؤلاء الصامتون هم أصل المشكلة. وهم السبب الفعلي لكل خراب عاناه لبنان، وسيعانيه الآن من جديد. وكل من يطلق كلاماً على طريقة خوري الرعية يدعو إلى التمثّل بالمسيح صلباً فقط لا ثورة، هو إنسان ناقص، يستحق السحق، ويستحق الإهانة، ويستحق الإهمال، ويستحق رميه في الزاوية وحيداً مقهوراً.

ها هي عوارض الحرب الأهلية تعود من جديد. الناس في المناطق الفقيرة لا يرفضون الدولة. هم لا يعرفون الدولة أصلاً. هم لم يتعرّفوا إليها حتى يقبلوا بها أو يرفضوها. هم فقط لا يريدون عصا الدولة. وعلى الجيش، ومعه القوى الأمنية كافة في هذه الحالة، أن يعرف جيداً، وأن يكون واعياً لكي يميّز بين نقد الناس له كأداة قمعية لسياسيين فاسدين ومجرمين وقطاع طرق، وبين النقد له كمؤسسة. أصلاً، ليس صحيحاً أن الجيش في منأى عن الخراب النفسي الذي يصيب اللبنانيين. بل هو في صلب هذه اللعبة. ومتى ظل الجيش يفكر في أنه يعيش في دولة متماسكة، سيظل عرضة لهذا النقد ولهذه الحملات. ليس على الجيش الالتفات إلى السياسيين الذين يهاجمونه. هؤلاء لا يقولون الآن إلا ما يريده الجمهور. إنهم السياسيون من نوع غب الطلب. الناس اختاروا هؤلاء. الناس ذهبوا منفردين ومجتمعين إلى صندوق الاقتراع واختاروا هذا الصنف من السياسيين. وجرى الاختيار بوعي. ولا يحق لأحد أن يتحدث عن قانون الانتخابات وعن الضغوط وعن المناخات الإعلامية وغير ذلك. ليصمت كل مواطن ويغلق فمه بأي شيء، لأنه هو من وافق على وجود هذا النوع من الحكام عندنا. وإذا كان لدى الجمهور كلام آخر، فليسمعنا إياه، كيفما أراد، في الشارع احتجاجاً، أو في صناديق الاقتراع.

أكثر من ذلك. ليس صحيحاً أنه لم يعد في البلاد سوى المؤسسة العسكرية تقف فوق الخلافات. لا، ليس صحيحاً على الإطلاق هذا الكلام. الجيش كما قوى الأمن الداخلي في قلب الانقسام السياسي. وغالبية المناطق اللبنانية تدير أمنها ذاتياً. وعندما يخشى الأمن مطاردة مطلوب، مداناً أو متهماً أو مظلوماً، وعندما يخضع القضاء لسلطة أخرى، سياسية أو شعبية، فهذا يعني أنه لم يعد في لبنان سوى مؤسسة واحدة تقف فوق الخلافات، وهي المؤسسة المصرفية.
ليس هذا الكلام إشادة بهذه السلطة الفعلية، ولا دعوة إلى تحييدها عن المحاسبة والنزاع. لكنه مبنيّ على كون هذه المؤسسة هي التي تقبض على كل ما يملكه اللبنانيون وما تملكه الدولة أيضاً، ولأنها تعيش صورة البلد بكل تشعباته وهوياته وحساسياته، ولأن هذه المؤسسة، أو السلطة، لا تزال تملك بيدها مفتاح اللبنانيين إلى عالم الاستهلاك المجنون، ولأن حسابات الكبار القابضين عليها لا تقف عند طائفة أو مذهب أو فئة أو دين أو طبقة، بل تقف فقط عند الورقة الخضراء التي تسيطر على كل شيء في هذا البلد النتن العفن، الذي صار المرء يشك في أنه يستأهل كل هذه التضحيات.
ها هي عوارض الحرب تعود. الميليشيات موجودة في كل مكان. ولها أحزمة البؤس الخاصة بها، ولها منظّروها وقادتها ووسائلها الإعلامية. ولها مموّلوها، ولها من يدير جدول أعمالها السياسي. وبين الوقت والآخر، تعطينا إشارة إلى استعدادها للحكم بالدم والنار. وما بقي من عدة الحرب لكي تشتعل، هو قرار، سيأتي مع الأسف من الخارج. سنعود إلى جنوننا، فيهرب من يقدر على الهرب، ويموت من يموت، وتبقى الرموز هي هي، تقف على رأس المجموعات العمياء، باسم الطائفة والمصلحة والنظرة الثاقبة.

ليس التوتر بسبب حادث عند حاجز في عكار، أو اعتداء على مكتب حزبي في بيروت، أو خطف زوار لبنانيين في سوريا، إلا النموذج الأكثر سطوعاً على حالة الغليان التي تسمعنا صوت الانفجار قبل رؤية نتائجه المتخيّلة. لكن، في مكان ليس ببعيد، يقف عدو، سيظل عدواً مهما حاول مجانين من بلادنا منحه أقنعة، يبتسم راضياً عن نتيجة ما يفعله.
في حالة الغضب هذه، يجب على كل منّا اختيار هدف لكي «يفش! خلقه» فيه. وفي حالة تكفل المجموعات اللبنانية بعضها ببعض، فتكاً وقتلاً وتدميراً، فليس أفضل من الرهان على ثلة مجانين، تمنع بالحديد والنار، بقاء الأميركيين والسعوديين في بلادنا… هم أصل البلاء إلى يوم الدين!

السابق
السفير: الأسد وأنان: تباين حول أولويات خطة البنود الستة
التالي
الاخبار: المخطوفون بانتظار الوقت الكافي