يكفيهم أنهم جذبوا كل هذا الانتباه

شيء ما، أشاع في الجو العام حالة من المرح الخالص.
هذا غريب على اللقاء «السلفي» ـ «البعثي» المرتقب. فالطرفان كانا مكفهرّين في الأيام الأخيرة، يزيد في اكفهرارهم طقس معتم وعاصف وبارد في النهار والليل. لكنّ شيئاً ما جعل هذا اللقاء عن بعد بينهما، مرحاً وخفيفاً على قلب العاصمة.
قبل انطلاق المرح بساعة، كانت معظم الشوارع المؤدية إلى ساحة الشهداء مقطوعة. القوى الأمنية حاضرة بكثافة وبما لا يقبل الشك بأنها متأهبة تماماً، وبأنها ليست بوارد التراخي أو المزاح. عناصر الجيش وقوى الأمن ومكافحة الشغب وآلياتهم، كل هؤلاء منتشرون بدقة من ينفذ خريطة أمنية لا مجال فيها لأي ثغرات. وهي دقة تطمئن إلى أنهم يعرفون، في هذا النهار المتوتر، ماذا يفعلون. أو أنهم احتاطوا أكثر بكثير مما ينبغي منهم، تحسّباً، وهذا حسنٌ على أي حال.
محيط وسط البلد خالٍ. نحن في صباح أحد قارس البرد، وليس من عادة سكان الاشرفية و«صيفي فيليج» (وبخاصة «صيفي فيليج») والجميزة مشاركة السلفيين والبعثـيين اهتـماماتهم السـياسـية أو غـيرها.
نأى سكان هذه المناطق بانفسهم عن حدث النزول المشهود لـ«مولانا» الشيخ أحمد الأسير الحسيني وتياره، الى ساحة الشهداء، نصرةً للشعب السوري. نأى سكان المنطقة حد الاختفاء تماماً عنها، ولو استطاعوا لأخذوا مناطقهم معهم حتى انتهاء التظاهرتين. المكان كان بداية، لبضعة شبان سوريين تموضعوا اسفل جسر فؤاد شهاب، يرفعون صور بشار الأسد مبتسماً، ويدفئون أجسامهم بالقفزات والهتافات، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، «مكتوب على المسدس، بشار الأسد مقدس» و«مكتوب على «الروسية» (نوع من السكاكين) بشار الأسد رئيسي»، ونكاية «بالإعلام المغرض»: «نحن شبيحة بشّار».
أصواتهم المتحمسة لا تبتعد عنهم كثيراً. تتلاشى بسرعة في المساحة الواسعة الممتدة من «الرينغ» إلى مبنى «النهار». هذه المساحة التي شهدت معظم تجليات الصراع اللبناني ـ اللبناني في الاعوام الفائتة، وقد أُهملت تماماً بعد «اتفاق الدوحة»، باستثناء حج اليوم الواحد سنويا لقوى 14 آذار إليها.
عادت لتكون أرض الحدث بعدما كانت تُركت لشأنها، ولفخامة أبنيتها، إلى أن تذكرها الشيخ الأسير الذي قرر أن يدخل «المعترك» السياسي اللبناني من وسطه ذي الدلالات الكثيرة، ومن ساحة الشهداء فيه.
لم يجد الشيخ الصيداوي أفضل من البعثيين خصماً ممتازاً، وجعل من تظاهرته وإخوانه وأخواته حدثاً لبنانياً كبيراً، وهي التي كانت لتمر من دون أن يشعر بها أحد لولا مغالاة «البعث» في «التظاهر ضد التظاهر».
الطريق الفاصلة بين اللعازارية ومسجد محمد الأمين هي نفسها الخط الفاصل بين التظاهرتين. في جهة اللعازارية، يرتفع في ثلاث طبقات اسطوانية وبعلو مترين، سياج شائك يمتد كشريط حدودي بين دولتين، وصولاً إلى الجادة التي تقع الجميزة خلفها. ومن تلك الجادة، يمكن الالتفاف للوصول إلى تجمع «الأسيريين»، الواقفين في الفسحة امام مبنى «فيرجين». المسجد، وضريح رفيق الحريري، ونصب الشهداء، منطقة عازلة منزوعة المتظاهرين، خاضعة فقط لسيطرة القوى الامنية والصحافيين، وقد اصطفت فيها، متأهبة، سيارات البث المباشر اللبنانية والعربية والأجنبية، وهي بمثابة الحلم عند جماعة صاعدة كالتي يتقدمها الأسير.

قبل وصول جماعة الأسير، كانت قلة من الشبان السوريين من معارضي النظام، كثير منهم ملثّم، تهتف لحماه وحمص وحرية سوريا وسقوط الأسد. أمامهم على المنصة رفعت صورة كبيرة بطباعة رديئة لطفل يبكي وملتح ممدد أرضاً وقدم بجزمة عسكرية تدوس على وجهه، في مشهد لا يمكن التكهن ما اذا كان حقيقياً او ممسرحاً.
الشيخ الأسير كان قد ظهر قبل وصول اخوانه، وقبل وجنتي طفل، ثم ذهب إلى جامع قريب ليصلي. المنظمون تابعوا تجهيز المنصة وما يتصل بها من أجهزة صوتية ومكبرات صوت عملاقة ومجموعة ميكروفونات و«أورغ» وخلافه مما يؤمن الموسيقى الخاصة التي باتت دائماً مطلوبة لمصاحبة احتفالات الفرق السياسية على أنواعها.

لن يطول الوقت قبل أن تصل جماعة الأسير، هكذا، دفعة واحدة. هكذا أتى المئات من الملتحين، فيهم الكثير من مرتدي الجلابيب، وقد حفّوا شواربهم وأرخوا لحاهم، ورفعوا رايات الاسلام السوداء: «لا اله الا الله محمد رسول الله».
من الرايات إلى اللحى إلى الثياب، طغى عليهم اللون الأسود، كذلك على الاخوات اللواتي بمعظمهن من المنقبات، وقد اتخذن لهنّ ركناً خاصاً وقفن فيه مسيجاً من ثلاث جهات بالحواجز الحديدية، ومحميّاً بعناصر الانضباط.
حين أشرقت الشمس فجأة على هذا الجمع، كان يمكن رفع العيون الى السماء والقول: «سبحان الله. إنه معنا»، فقط لو انها استمرت تمطر على «البعثيين». لكن الشمس أشرقت على بيروت كلها، فراح اللون الاسود يبرق لمّاعاً حيث تسقط الاشعة المُفتقدة في اشهر العاصفة المستمرة هذه. انكشف المشهد عن مئات السلفيين الذين وجدوا أنفسهم للمرة الأولى في الواجهة العريضة للحدث. عشرات المصورين يلتقطون صورهم كيفما التفتوا. اذا وقفت مجموعة منهم في صف تؤدي الصلاة خلف واحد منهم. إذا رفعت السيدة التي لا نرى منها حتى عينيها، الهاتف الخلوي بتفاحة الآي فون أمام خمارها، تلتقط به صور من يصوّرها. وإذا راحوا يتراصفون في صفوف بناء على تعليمات الأخ الذي على المنبر يطلب منهم ان يقوموا بما يرونه على التلفزيونات، و«حتى يظهر عددنا الحقيقي». ذاب الشبان السوريون بين الغالبية التي جاءت من صيدا، ثم الاقليم، بينما غابت بقية المحافظات، وعلى رأسها بيروت. اقتصر الامر على الأسيريين. اعتمر كثير منهم قبعات كتب عليها «التيار السلفي»، ووحدوا الرايتين المحمولتين: راية الاسلام، وعلم «الثورة السورية». هؤلاء وجدوا أنفسهم فجأة في قلب الصورة الذي لطالما شغلها غيرهم. شيخهم جلبهم إلى بيروت، حيث أضواء الاعلام تبهر حقاً. «الجزيرة» هنا و«العربية» والكثير الكثير غيرهما، والجميع مهتم، وحتى «المؤسسة اللبنانية للإرسال» تنقل الحدث مباشرة. هذا أكثر من أحلى أحلام الشيخ. تحقق له بهذه البساطة. ببساطة أن ينزل السلفيون إلى بيروت. وأن يتبرع البعثيون للتظاهر ضدهم، بلا أي مقابل، فيخرج الشيخ من صفته الضيقة كحالة صيداوية في مسجد في عبرا، إلى الشيخ الذي تأهبت العاصمة، بوزير داخليتها وإعلامها وعسكرها، لاستقباله وناسه، حتى بات مبرراً سجوده الطويل على المنصة لدى صعوده إليها، حمداً لله على الارجح لتوفيقه في مسعاه. فالشيخ السلفي وصل، أخيراً، إلى المركز.

الشمس، الاطمئنان إلى أن مئات الامتار من الاسيجة الشائكة تفصل بين التظاهرتين، الارتباك المتبادل بين المتظاهرين وبين الصحافيين الذين لم يعتادوا النمط الجديد من التظاهر، كل هذه اسباب أضفت المرح المطلوب على النشاط، وسرعان ما انكسر الجليد بين الطرفين. فطوت صحافية أجنبية شقراء ذراعها ووضعت يدها على خصرها وقد أمالته مقلّدة وقوف عارضة ازياء، ورسمت على وجهها الابتسامة الواسعة لأكثر السائحات فرحا في العالم، بينما في خلفية الصورة مجموعة من الرجال بالجلابيب وبلحى تطول عن «قبضتين»، ينظرون مذهولين إلى مطرب الحالة الأسيرية فضل شاكر، يؤدي بصوته العذب أنشودة وطنية اشتهرت في الثورة الليبية.
غنّى شاكر الأنشودة بالرقة والعذوبة نفسيهما التي أدى بهما مئات أغاني الحب. هذه الاغنيات التي أكثرها نجاحاً كانت إعادات شجية لأغنيات مطربات مثل صباح، تباع خلفه تماماً، حيث يقع مبنى «الفيرجين»، النقيض الثقافي التام للأسير. نقيضان يتقاطع بينهما شاكر الذي يعيش حتى اللحظة بين منزلتي الفن الفاسق والدين على ما وصلنا من السلف الصالح. وهو، وقد أنهى وصلته الغنائية بالصراخ: «تكبير»، بدا أن أمره لن يطول به قبل أن نراه قد حف الشاربين، وأرخى اللحية، وربما، والله أعلم، ارتدى الجلباب. هذا أمر قد يتحقق. ما لم يتحقق عصر أمس هو ظهور الفنانة أليسا، على الرغم من الهمس الذي انتشر بين الصحافيين بأنها قد تفاجئ الجميع بحضورها، وأن جورج وسوف أيضا قد يكون ضيف التظاهرة الثانية.
ولأن الطبيعة قررت أن تجود بمرحها على الموجودين، وصل وزير الداخلية مروان شربل، متفقداً الاسيريين وجنوده المتأهبين منذ الثالثة من فجر أمس، مشجعاً ومربتاً على أكتافهم.

مشي شربل يقع على حافة الهرولة. حوله مجموعة ضباط، وهو ما زال مصراً على أن يكون في حركات جسده وتعبيرات ملامحه، ضابطاً أكثر منه وزيراً. تسأله زميلة عن الأجواء فيجيب: «بدك أحسن من هيك؟».
ويتابع طريقه، واثقاً من أنه أدى مهمته بنجاح، ليحصد نجاحه بنفسه، إعلامياً على الاقل. حين يصل إلى الشريط الشائك حيث المتظاهرون البعثيون والسوريون يهتفون شاتمين الاسير، يدلى بتصريح للمؤسسة اللبنانية للإرسال وغيرها من المؤسسات على وقع أغنية «تي رش رش» الآتية من مكبرات صوت وبكلمات معدّلة كي تصير في مديح الأسد.
وقبل أن يغادر، تلّفت شربل حوله كما يفعل الضباط عادة، وذهب مطمئناً إلى أن «لا ضربة كف» وقعت أو ستقع، وهذا معيار يحبه الضباط أيضاً.
لا منافسة فنية بين التظاهرتين. الذائقة هي التي تحدد لمن الغلبة، لعلي الديك، أم لفضل شاكر، وإن كان الاسيريون تفوقوا بالغناء الحي، وبالخطيب الذي لم يكن خطابه هو المهم يوم أمس، بقدر أهمية وصوله إلى ساحة الشهداء. وهو لم يضف أي جديد على خطابه الشديد اللهجة ضد سوريا، بل إنه في بيروت، حيّد إيران التي لطالما عاملها معاملة النظام السوري في هجومه الصاعق كل صلاة جمعة في صيدا. أما الجديد الوحيد في كلام الاسير فهو توجهه إلى «إخواننا في الانسانية وشركائنا في هذه المنطقة المسيحيين، أنتم لا تطلبون الحماية من أحد، بل نحن نطلب منكم الحماية من خلال بقائكم وصمودكم معنا في هذه المنطقة، لأن المشروع الصهيوني يريد تفريغ المنطقة منكم، كي تتشوه صورة الاسلام. ونحن تربينا على الاسلام الذي كان فيه باب المسجد لا يبعد الا امتارا عن باب الكنيسة»، وحمل على الاسد متهما اياه «بزرع الوهم والخوف في قلوب المسيحيين»، وناشد «الشباب المسيحي بخاصة في لبنان: إياك والهجرة».

لا شيء مهماً غير هذه الرسالة المبهمة الأسباب إلى «الاخ المسيحي» في الوطن. وخطاب الأسير المدروس بعناية قام في بقيته على الخلط بين الماضي الديني السحيق وبين الحاضر السياسي. لكن الاسير هو الخطيب الوحيد حتى تاريخه، الذي يقف في ساحة الشهداء، ولا يتذكر لا من قريب، ولا من بعيد، ولا حتى بكلمة أو بإشارة، الرئيس رفيق الحريري الممدد على بعد أمتار منه، في تجاهل صارخ لتيار «المستقبل» في ساحة قضيته.
غير ذلك، فهي من الحالات النادرة، إن لم تكن الوحيدة، التي يرافق فيها الخطيب الواقف على المنصة، مساعد على الارض يحمل مذياعاً وينظم هتافات الجمهور. آلية جديدة للعلاقة بين الجماهير وبين شيخها الشاب، بدأت جيدة قبل أن تضعف بينما الوقت يمر على المتجمعين، وفي مقدمهم بضعة شيوخ والداعية عمر بكري فستق والشيخ بلال دقماق، وفي غياب واضح للدعم السنّي، بمعظم أطرافه، لهذه الحالة الصاعدة.

انتهى الشيخ وغادر الاسيريون واستمر أنصار النظام السوري في الهتاف والغناء والرقص على وقع الاغنيات الرائجة في الاعراس. ضجر ضباط الدرك وعناصرهم ولم يضجر المصورون من التقاط الصور، إلى أن قرر نقيب أن يطلب من الاعلاميين المغادرة كي ينسحب المعتصمون الذين لم يفضوا اعتصامهم فعلاً إلى أن تأكدوا من خلو الساحة المقابلة من الجميع.
انتهى يوم الاسير في بيروت على مرح وتسلية وآلاف الصور. غنى فضل شاكر وعلي الديك. وصل السلفيون إلى المدينة، وأثبتوا أكبر حضور لهم حتى تاريخه في العاصمة التي يقال عنها إن صدرها رحب يتسع للجميع، بدليل اللقاء البعثي ـ الاسيري أمس.
بيروت هي التي تجترح مثل هذه المعجزات الصغيرة على الارجح. تخترع المرح والشمس والتظاهرات في اليوم المكفهر. وتخترع الامان بينما الارض تموج ولهاً. وتنشق شوارعها الخالية، بعد التظاهرتين، عن أجنبي يقود دراجة بعجلة واحدة، فاتحاً ذراعيه على اتساعهما في الشارع الخاوي، تتمايل به عجلته يميناً ويساراً، بحرية خلاّبة. يستمتع بالطقس الرائع مبتهجاً كأنه يعيش في سيرك.  

السابق
لماذا يكرهوننا؟!
التالي
نتنياهو سيطالب أوباما اليوم بإبقاء الخيار العسكري قائما ضد إيران